رأي حر

بين التبعية والسيادة / عمر سعيد

يدور جدل عقيم منذ عقود حول مفهوم السيادة في لبنان وفي الوطن العربي.

منذ أن بدأت أفهم الكلام وأنطقه، كان أهل بلدي يتغنون بأن ضيعتنا هي الوحيدة التي لم تخضع للإقطاع، وبأنهم أسياد أنفسهم.

وقد كانت البلدتان التي تجاوراننا شمال البلدة وجنوبها تابعتين للإقطاع. حمارة لهنري رزق الله. ومجدل عنجر لجوزيف السكاف، وربما أبيه من قبله.
وإلى اليوم نتغني في الصويري بأننا أسياد أنفسنا، لكننا وقعنا بكثير من المشاكل بسبب تلك السيادة.

ولأننا إلى اليوم لم نبلغ نظام التبعية لقائد منّا.
أسقطنا بلدياتنا التي انتخبناها مرتين خلال أربع دورات، وانقلبنا على مرشحينا الذين اخترناهم. لذلك نحن اليوم بدون بلدية، وبدون خدمات، ونعاني من أزمة مياه وكهرباء والفوضى وغياب التعاون.

في الوقت نفسه تمكنت حمّارة التي كانت مملوكة إقطاعيًا، من إنجاز كثير من المشاريع بفضل النظام الذي خلقته التبعية للنظام الإقطاعي والكثير من الخدمات والتنظيم والتطور. كذلك مجدل عنجر.

تخلق فكرة السيادة “أنا” عالية منتفخة جدًا، أنا تهزم الجماعة والعمل المنظم. وتعزز الفوضى والعنجهية، والإنقلاب على النظام والتبعية والتعاون.

قد يكون في السيادة الكثير من الإيجابيات، كتعزيز الثقة بالنفس والاعتماد على الذات وإدارتها. لكن التبعية تخلق روح الجماعة، وتنمي النظام، وتكرّس حسنات التراتبية.

لا يمكن للشعوب التي لم تمر بالتبعية أن تبلغ السيادة. فالسيادة نتاج التبعية. إذ تعالج التبعية الكثير من سلوكيات الأفراد السلبية تلك التي تطيح بالجماعة والمجتمع.

بعد سقوط الأسد غير المأسوف عليه، ذهبت إلى سوريا، لفت انتباهي التزام السائقين نظام السير، والتزام قوانين السلامة والدور واستمرار الناس بحياتهم بشكل سلس.

تذكرت كثرة جرائم القتل التي تقع في بلدي على أولوية المرور والوقوف.
وتذكرت نقاشًا دار بيني وبين الأستاذ أنطوان سعد الإعلامي وصاحب دار سائر المشرق حول عظمة إنجازات الأنظمة الدكتاتورية والقمعية في التاريخ.

ذكر أستاذ أنطوان لي حينها الحضارة الفرعونية، والرومانية و…
حتى أمريكا الحديثة نشأت بفضل الإنكليز أصحاب الباع الطويل في التنظيم والإدارة، ومن المهاجرين الألمان والأوروبيين الذين عايشوا أنظمة مكنتهم من فكرة الانضباط والنظام والتراتبية.

إن السعي إلى السيادة فكرة شبه مستحيلة بمعناها الكلي الشامل المجرد. فالإنسان تبع بمجتمعه وكليته وبفرديته.. يُلحَقُ الذكر بالإنثى والعكس صحيح. والأسرة بالأبوين والعائلة ثم الحي فالمنطقة.

تعمل النسبة الغالبة من البشر في وظائف تتبع تراتبية، يُفترض أن تنتج نظاما ينتج خدمات وتطورًا. إن التدقيق في طبيعة العلاقات التي تخلقها أعمالنا ووظائفنا يكشف لنا مدى التداخل بين البشر، وتشارك التبعية والسيادة في بناء الفرد والجماعة.

يخرج شخص من هنا يسب التبعية، وشخص من هناك يرفض الحزبية، وينادي بالاستقلالية الفردية، الاستقلالية التي ستعود بتلقائية للبحث عن تبعية جديدة تنظم الحياة.
وينادي كثيرون بالسيادة دون فهم العلاقات المتشابكة والمتداخلة بين الفرد والمجتمع والدولة والدول والنظام العالمي الذي يتشكّل.

وفي دولة كلبنان، لا يمكن بلوغ السيادة التي ينادي بها الكثيرون. إنما يمكننا اختيار التبعية الأكثر منفعة لنا، تبعية تمنحنا شيئًا من القدرة على تعلم إدارة الذات، وتكون أقل ضررًا وخطورة على مستقبل محتمعنا وأبنائنا.

أما أن نصرح أفرادًا وجماعات كالببغاوات، وننادي بالسيادة، ونحن مجتمع فاشل وأفراد فوضويون، فتلك كارثة فكرية واجتماعية، لا نعرف مدى خطورتها على استمرار النظام في البلاد والإنسان.

عمر سعيد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى