حانَ وقتُ تطبيقِ اتّفاقِ الطائفِ بصورتِه الصحيحةِ واستعادةِ التوازنِ الداخليّ

بقلم تادي عواد –
يُعَدّ اتفاقُ الطائف (1989) نقطةَ تحوُّلٍ محوريّةٍ في تاريخ لبنان، فقد أرسى أسسًا جديدةً لمرحلةِ ما بعدَ الحربِ الأهليّة، إلّا أنّ تطبيقَه شابَه الكثيرُ من التجزئةِ والانتقائيّة. ولعلّ مِن أبرزِ ضحايا هذا التطبيقِ المُجتزإِ مكوِّنٌ أساسيٌّ في المجتمعِ اللبنانيّ، وهم المسيحيّون الذين تراجعَ دورُهم السياسيّ بسببِ التطبيقِ المُحرَّف والجائرِ للاتفاق.
أوّلًا: نزعُ سلاحِ الميليشيات لإنهاءِ مظاهرِ الدولة داخلَ الدولة
من أهمِّ البنودِ التي نصّ عليها اتفاقُ الطائف ضرورةُ حلِّ الميليشيات ونزعِ سلاحِها، لتعودَ للدولةِ وحدَها صلاحيّةُ احتكارِ القوّة. غير أنّ هذا البندَ لم يُطبَّقْ تطبيقًا كاملًا، إذ بقيتْ بعضُ المجموعاتِ المسلّحةِ في لبنان، وعلى رأسِها حزبُ الله وحركةُ أمل وسرايا المقاومة، تحتفظُ بسلاحِها ودورِها العسكريّ. وقد أدّى ذلك إلى خللٍ في مبدأ سيادةِ الدولةِ الشاملةِ على أراضيها، وأحدثَ فروقاتٍ جوهريّةً في موازينِ القوى الداخليّة. ومن أجلِ تصويبِ المسارِ وإعادةِ التوازن، لا بدّ من استكمالِ تطبيقِ بندِ نزعِ السلاحِ من دونِ استثناء، بحيث تتساوى كلُّ الأطرافِ أمام سلطةِ الدولةِ ومؤسّساتِها.
ثانيًا: العودةُ إلى العددِ الأصليِّ للنوّاب (108 نوّاب)
ورد في اتفاقِ الطائف اعتمادُ 108 مقاعدٍ في مجلسِ النوّاب، موزّعةٍ بالتساوي بين المسيحيّين والمسلمين. إلّا أنّه جرى لاحقًا رفعُ العددِ إلى 128 مقعدًا، بحجّةِ تعزيزِ التمثيلِ العام، مع الحفاظِ على المناصفة. لكنَّ الواقعَ أثبت أنّ المقاعدَ العشرينَ الإضافيّةَ وُزِّعتْ في معظمها ضمنَ مناطقَ ذاتِ أغلبيّةٍ إسلاميّةٍ، ما أفقدَ المسيحيّين فعليًّا التمثيلَ الحقيقيَّ لتلك المقاعد. وقد أدّى هذا الاختلالُ إلى شعورِ شرائحَ واسعةٍ من المسيحيّين بأنّ حصّتَهم النيابيّةَ قد جرى «التلاعب» بها تحتَ ستارِ المناصفةِ الشكليّة، وبأنّهم خُدِعوا بما يخدمُ مصالحَ طائفيّةً وسياسيّةً مغايرة. لذلك، فإنّ العودةَ إلى العددِ الأساسيِّ المنصوصِ عليه في الطائف (108 نوّاب) تُعَدّ خطوةً محوريّةً لتصحيحِ الخللِ وإعادةِ الاعتبارِ لجوهرِ الاتفاق.
ثالثًا: تطبيقُ اللامركزيّةِ الإداريّةِ والماليّةِ الموسَّعة
لم يكتفِ اتفاقُ الطائف بالنصِّ على ضرورةِ وقفِ الحربِ ومبدأ المناصفة، بل وضع أيضًا خطّةً لإعادةِ بناءِ الدولةِ على أسسٍ عصريةٍ. ومن أبرزِ هذه الأسس مبدأُ اللامركزيّةِ الإداريّةِ والماليّةِ الموسَّعة، الذي يهدفُ إلى تعزيزِ الاستقرارِ الداخليِّ عبرَ تمكينِ السلطاتِ المحليّة (البلديات أو المحافظات) من إدارةِ شؤونِها الإداريّةِ والماليّة بمعزلٍ عن البيروقراطيّةِ المركزيّة، مع الحفاظِ على وحدةِ الدولةِ وإشرافِها العام. ورغم أهميّةِ هذا البندِ في تحقيقِ الإنماءِ العادلِ والمتوازنِ بين المناطق، فإنّه لم يُطبَّقْ بالدرجةِ التي تلبّي طموحاتِ اللّبنانيّين في إنعاشِ مناطقِهم وتنميتها.
رابعًا: إزالةُ «البدع» من الاتفاق
بالإضافة إلى البنودِ السابقة، ظهرت بعضُ «البدعِ» أو الممارساتِ التي لم ينصَّ عليها اتفاقُ الطائف، ومنها بدعةُ احتفاظِ الطائفةِ الشيعيّةِ بحقيبةِ وزارةِ الماليّة، وهي ممارسةٌ تمسُّ جوهرَ مبدأ المناصفةِ والشراكةِ الذي قامَ عليه الاتفاق. فالتمسُّكُ بهذه العُرفيّةِ لم يردْ في وثيقةِ الطائفِ النهائيّة، ولم يحصلِ التوافقُ عليها في حينهِ، بل جاءت نتيجةَ توازناتٍ سياسيّةٍ لاحقةٍ وروّجَ لها «الثنائيُّ الشيعيُّ». ومن هنا، فإنّ التخلّي عن هذه «البدعِ» يُعَدّ جزءًا لا يتجزّأ من العودةِ إلى الاتفاقِ الأصليِّ ومندرجاته.
خاتمة
إنّ العودةَ إلى التطبيقِ الكاملِ لاتفاقِ الطائف ليست مجرّدَ مطلبٍ لفئةٍ معيّنةٍ فحسب، بل هي ضرورةٌ وطنيّةٌ لاستعادةِ توازنِ النظامِ السياسيّ، وترسيخِ سلطةِ الدولة، وتلافي المزيدِ من الأزماتِ التي قد تتفاقم في ظلِّ بقاءِ الأوضاعِ الراهنةِ على ما هي عليه. فالدولةُ القويّةُ التي تحظى بثقةِ جميعِ مكوّناتِها لا يمكنُها أن تقفَ على أرضٍ صلبةٍ ما دامت هناك جماعاتٌ مسلّحةٌ غيرُ خاضعةٍ لسيادتِها، وتمثيلٌ نيابيٌّ يحتاجُ إلى إعادةِ نظر، ونظامٌ إداريٌّ وماليٌّ يفتقرُ إلى اللامركزيّةِ الفعليّة، فضلًا عن «بدعٍ» طائفيّةٍ تبتعدُ عن الأسسِ التي أرساها الطائف. وعليه، فإنّ السعيَ الحثيثَ إلى استكمالِ تطبيقِ بنودِ الطائف بأمانةٍ وبصورةٍ متكاملةٍ هو الخطوةُ الأولى نحوَ بناءِ لبنانَ جديدٍ ينعمُ بالاستقرارِ ويُؤسِّسُ لمستقبلٍ أفضلَ لجميعِ أبنائِه من دونِ استثناء.