الراعي ممتعضاً: ما رأيناه لا يـمتُّ بصلة إلى الحضارة القضائية
ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قداس الاحد في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي، عاونه فيه المطارنة: حنا علوان، بيتر كرم وانطوان عوكر، أمين سر البطريرك الاب هادي ضو، بمشاركة عدد من المطارنة والكهنة، في حضور عائلة المرحومة رينه عبيد أزعور، الرئيس السابق لمجلس القضاء الأعلى جان فهد، هيئة التنسيق العليا للمزارعين، المحامية ريجينا قنطره، رئيس مؤسسة البطريرك صفير الاجتماعية الدكتور الياس صفير وعدد من المؤمنين التزموا الإجراءات الوقائية.
بعد الانجيل المقدس، ألقى الراعي عظة بعنوان: “إرموا الشبكة إلى يمين السفينة تجدوا” (يو 21: 6)، جاء فيها: “مع شروق نور الصباح تراءى يسوع للرسل، ووجه عملهم وخطاهم كالنور الهادي، بعد ليلة من الصيد الفاشل، ليلقوا الشبكة إلى يمين السفينة ففعلوا وكان الصيد العجيب (راجع يو 21: 6). لا بد في كل عمل ومشروع وموقف ومبادرة من الاستنارة بنور شخص المسيح، وإنجيله، وبتعليم الكنسية التي تشرح لنا مضامين كلامه، وتهدينا إلى كل خير وحق وجمال. يعلمنا هذا الصيد العجيب الا نتسرع في القرار والعمل، تحت تأثير الفشل أو معاكسة أو نقل كلام غير صحيح أو خبر كاذب؛ بل أن نعود إلى المسيح، رفيق دربنا، عمانوئيل، وإلى أنوار روحه القدوس، لكي نهتدي إلى القرار الأفضل. إننا بذلك نتجنب الكثير من الخلافات والنزاعات في العائلة والمجتمع، وفي الكنيسة والدولة. مشكلة عالم اليوم أنه يستغني عن الله وكلامه ووصاياه ورسومه في الحياة اليومية. وهذا ما جعل الإنسان يتقدم في العلم والتكنولوجيا ويتراجع في القيم الإنسانية، بما فيها من عاطفة ومشاعر وحب ورحمة وتآخي وتضامن وتعاضد”.
وتابع: “يسعدنا أن نحتفل معا بهذه الليتورجيا الإلهية فنحيي جميع المشاركين معا بحضورهم، وأولئك المشاركين عبر وسائل الإتصال الإجتماعي، وبخاصة تيلي لوميار-نورسات والفيسبوك. ونوجه تحية إلى عائلة المرحومة رينه عبيد أرملة المرحوم بدوي ملحم أزعور، وشقيقة المرحوم الوزير والنائب جان عبيد، وقد ودعناها منذ أسبوعين مع أبنائها وبناتها والأشقاء والشقيقات وسائر الأنسباء. ولا بد من التذكير بأن إبنها الدكتور جهاد أزعور كان وزيرا للمالية واليوم هو مسؤول في بنك النقد الدولي، وإبنها المهندس أنطوان هو المنسق بين المؤسسات الإجتماعية والإنمائية التابعة للبطريركية. نصلي في هذه الذبيحة المقدسة لراحة نفسها، ولعزاء أسرتها. ويحضر معنا رئيس هيئة التنسيق العليا للمزارعين في لبنان وبعض من أعضائها. جاؤوا ليطلقوا صرختهم الإستنكارية لما حصل مع المملكة العربية السعودية من جراء عملية تهريب مخدرات داخل إحدى المنتوجات الزراعية، وهي ليست لبنانية ولا على إسم أي مزارع أو مصدر لبناني ولمطالبة الدولة اللبنانية إجراء تحقيق سريع لكشف الفاعلين والمهربين وإنزال أشد العقوبات بحقهم، وبالتالي معالجة هذه المشكلة مع المملكة العربية السعودية الصديقة. وهي السند الاكبر للمزارع اللبناني من خلال تصدير أكثر من ثمانين بالماية من الإنتاج إليها. ونحن من جهتنا إتصلنا ظهر أمس بالدكتور وليد البخاري سفير المملكة الموجود حاليا في الرياض، وأبلغناه إستنكارنا، وطلبنا إليه نقله إلى المملكة مع التمني بأن تأخذ في الإعتبار أوضاع لبنان والمزارعين الشرفاء. وفي المناسبة نطالب الدولة اللبنانية بالمحافظة على صداقاتها مع الدول العربية، وبخاصة مع المملكة السعودية لما لها دائما من مواقف ومبادرات إيجابية لصالح لبنان واللبنانيين، وإنضمت إليها دول التعاون الخليجي التي نعبر لها هي ايضًا عن أسفنا الشديد لما جرى. كما يؤسفنا في العمق تهريب مخدرات عبر دولة صديقة أخرى هي اليونان، هل هكذا أصبح لبنان في أيامنا؟”.
وأضاف: “تصلي الكنيسة اليوم وطيلة الأسبوع من أجل الدعوات الإكليريكية، ملتمسة من الله أن يختار من شعبه أشخاصًا لخدمة الكهنوت، وآخرين للحياة المكرسة، رهبانًا وراهبات، للسير على خطى المسيح في طريق المحبة الكاملة. في رسالته لمناسبة هذا اليوم العالمي للصلاة من أجل الدعوات، يقدم قداسة البابا حياة القديس يوسف مثالًا، في هذه السنة الخاصة المكرسة له التي بدأت في 8 كانون الأول 2020. عنوان الرسالة: القديس يوسف: حلم الدعوة. يكتب قداسته: الله يرى القلب. في القديس يوسف، رأى قلب الأب الذي يقدر أن يعطي بسخاء ويولد الحياة في الظروف اليومية العادية. هذا هو هدف الدعوات الكهنوتية والرهبانية: أن تلد الحياة ونجددها كل يوم. يريد الله أن يكون قلوب آباء وقلوب أمهات: قلوبًا قادرة على الإنطلاقات الكبيرة، سخية في هبة الذات، رحومة ومشجعة وثابتة من أجل تقوية الآمال. هذا ما يحتاج إليه المدعوون إلى الكهنوت والحياة المكرسة. نصلي لكي يرسل الله كهنة ورهبانا وراهبات قديسين.
نقرأ في ترائي الرب القائم من الموت، والصيد العجيب، في انجيل اليوم حدثا يتجدد كل يوم في حياة المؤمنين والكنيسة. فالإنجيل لا يروي أحداثا تقف عند حدود الماضي، بل تشكل نماذج ورموزا لأحداثنا التاريخية. هذا ما نعنيه عندما نقول بضرورة قراءة علامات الأزمنة. في إنجيل اليوم، البحر هو العالم، السفينة هي الكنيسة، الشباك هي الإنجيل، الصيادون هم الرسل وخلفاؤهم الأساقفة ومعاونوهم الكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات والمؤمنون الملتزمون، قائد السفينة هو المسيح، الأسماك هم البشر، عدد 153 سمكة كبيرة هم الشعوب المعروفة، الصيد الفاشل هو نتيجة العمل المستغني عن توجيه المسيح وإرادة الله، الجمر والسمك والخبز على الشاطئ هم عطية المسيح”.
وقال: “أساس حدث الصيد العجيب سماع كلمة المسيح الرب: ألقوا الشبكة إلى يمين السفينة تجدوا والعمل بموجب هذه الكلمة: فلما ألقوها ما قدروا على إجتذابها من كثرة السمك (يو 21: 6).
فلو يسمع المسؤولون عندنا صوت الله في ضمائرهم، وصوته من خلال معاناة المواطنين اللبنانيين الذين أصبح 50% منهم تحت مستوى الفقر، فيما كانت الطبقة المتوسطة تفوق 80 % من الشعب وتشكل ركيزة إستقراره، وصوته من خلال انهيار الدولة بمؤسساتها واقتصادها وماليتها ومعيشة شعبها، لكانت تألفت الحكومة منذ تعيين رئيسها بالإتفاق مع رئيس الجمهورية، وزللت العقبات، وبوشر سريعا بالإصلاحات وترميم المرفأ وإعادة إعمار بيروت، وأوقف الهدر، وأقفلت معابر التهريب المستور والعلني، وضبطت مداخيل المرافئ والمطار، وأجريت الإصلاحات الأساسية والملحة. فبانتظار عودة دورة الحياة الإقتصادية إلى طبيعتها، من الضرورة بمكان إصدار البطاقة التموينية للعائلات المعوزة، تعويضا عن إعادة النظر بسياسة الدعم. لبنان بحاجة، لكي ينجو من حالة بؤسه وتفكك مؤسساته، إلى حكومة وطنية من إختصاصيين مستقلين عن الأحزاب، يتمتعون بالقدرة على التعاطي في الشأن العام، وحسن الحوكمة، ومعرفة التوفيق بين الخبرة المهنية والحس السياسي. حكومة يتم تأليفها بمنطوق الدستور وروحه، وبالمساواة الميثاقية، بعيدا من المحاصصة السياسية واستملاك الطوائف. ورغم اقدام البعض على ربط تشكيل الحكومة بالتطورات الإقليمية والدولية، فهناك أكثر من مسعى عربي ودولي لدفع المسؤولين إلى الاسراع في تشكيل الحكومة. وآخر رسالة بهذا الشأن أتت من قداسة البابا فرنسيس الذي ربط زيارته إلى لبنان بوجود حكومة. فجريمة أن يفوت المسؤولون هذه الفرصة، خصوصا أن بها يتعلق مصير المساعدات والإصلاح، ونهضة الاقتصاد، وعودة أموال المودعين، وعودة لبنان إلى نفسه والعالم”.
وختم الراعي: “أصابنا الذهول ونحن نرى على شاشات التلفزة واقعة قضائية لا تمت بصلة إلى الحضارة القضائية ولا إلى تقاليد القضاء اللبناني منذ أن وجد. فما جرى يشوه وجه القاضي النزيه والحر من أي إنتماء، ذي الهيبة التي تفرض إحترامها واحترام العدالة وقوانينها. نحن نصر على أن يكافح القضاء مكامن الفساد والجريمة بعيدا من أي تدخل سياسي. ونصر على أن تعود الحقوق إلى أصحابها، لاسيما الودائع المصرفية. ولكن ما جرى، وهو مخالف للأصول القضائية والقواعد القانونية، قد أصاب هيبة السلطة القضائية واحترامها وكونها الضمانة الوحيدة لحقوق المواطنين وحرياتهم في خلافاتهم في ما بينهم، وفي نزاعاتهم مع السلطة والدولة، وبتنا نتساءل بقلق عظيم عن ماهية ما حصل وخلفياته. وإن كان ليس من شأننا، أو من شأن أحد، التدخل في مسار التحقيقات القضائية، أو إتخاذ موقف من صحة أو عدم صحة الأفعال موضوع التحقيقات، إلا أننا لا يمكننا السكوت عما يجري والتعبير عن مخاوفنا من مثل هذه الممارسات التي تضرب ما تبقى من صورة الدولة، ما يدفعنا إلى رفع الصوت لإعلان رفضنا المطلق لهذا الانحراف ومطالبة المسؤولين بضبط هذا الانفلات الخطير وتفادي سقوط السلطة القضائية بالكامل،إذ أن سقوطها يشكل الضربة القاضية لدولة الحق والمؤسسات. نصلي إلى الله كي يهدي الجميع إلى كل ما يؤدي إلى خير الوطن والمواطنين لمجده تعالى، الآب والإبن والروح القدس، الآن وإلى الأبد”.