لعبة التذاكي ترتدّ على إيران
ما يبدو طبيعيا هو إدراك أن اللعبة تغيّرت وأن التذاكي لم يعد ينفع. لكن السؤال كم من الخسائر ستلحق بالإيرانيين وبدول المنطقة قبل الوصول إلى مرحلة تواجه فيها طهران الواقع؟
ليت إيران تستوعب أن السياسة القائمة على لعبة التذاكي لم تعد تجدي. سيوفّر ذلك عليها الكثير، كذلك على دول المنطقة الأخرى من عربيّة وغير عربيّة. استخدمت إيران التذاكي طويلا، وعرفت كيف تستغل كلّ الأخطاء التي ارتكبها الآخرون، خصوصا صدّام حسين في مرحلة معيّنة، والإدارات الأميركية المتلاحقة في كلّ المراحل. من جيمي كارتر، إلى باراك أوباما، مرورا برونالد ريغان وجورج بوش الأب وبيل كلينتون وجورج بوش الابن. ففي عهد بوش الأب، تظاهرت بأنها تحترم القرارات الدولية وجلست تتفرّج على حماقات صدّام حسين عندما قام بمغامرته المجنونة في الكويت.
هناك الآن جديد على صعيدين. الأول أنّ في واشنطن إدارة جديدة تعرف تماما ما هي “الجمهورية الإسلامية” التي قامت في العام 1979، والآخر أن أوروبا لا تستطيع أن تفعل شيئا لإيران. أوروبا في موقع العاجز في ظلّ ما تعاني منه دولها من مشاكل داخلية من جهة، وفي ظلّ خوف الشركات الكبيرة فيها من أيّ تلويح أميركي بفرض عقوبات عليها من جهة أخرى.
لعلّ أكثر ما تعرفه الإدارة الأميركية الحالية أن إيران تتعامل مع الآخرين عن طريق أدواتها الخارجية، أي الميليشيات المذهبية التي صنعتها. تكمن قوّة هذه الإدارة، أقلّه نظريا، في رفض التفريق بين هذه الميليشيات، على رأسها “حزب الله” في لبنان من جهة، وإيران من جهة أخرى.
بكلام أوضح، هناك إدارة تعرف أن لا وجود لشيء اسمه “حزب الله” في لبنان أو “عصائب أهل الحقّ”، وحتّى ما يسمّى “الحشد الشعبي” كلّه في العراق، من دون إيران. مثل هذا النوع من الميليشيات جزء لا يتجزّأ من “الحرس الثوري” الإيراني، الجسم الذي بات يتحكّم بكل مفاصل السلطة في ما يعرف بإيران – الجمهورية الإسلامية.
ليست الزيارة المفاجئة لوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو لبغداد سوى تعبير عن مدى الاستيعاب الأميركي لطريقة عمل الإدارة الإيرانية وكيفية استخدامها لأدواتها، خصوصا في العراق. تريد الإدارة معرفة من يحكم العراق ويتحكّم به. هل “الحشد الشعبي”، أم عادل عبدالمهدي، الرجل المتردّد، الذي لم يستطع استكمال تشكيل حكومته حتّى الآن لأسباب إيرانية أوّلا وأخيرا؟
تكرّس سقوط سياسة التذاكي عندما اعتقدت إيران أن العالم كلّه على شاكلة إدارة باراك أوباما الذي اختزل مشاكل الشرق الأوسط بالملفّ النووي الإيراني.
لم يعد مهمّا التزام إيران ببنود الاتفاق في شأن ملفها النووي الموقع صيف العام 2015 مع مجموعة الخمسة زائدا واحدا. لم يعد مهمّا أن تقول هذه الدولة الأوروبية أو تلك إنّها حريصة على المحافظة على الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني. لم يعد مهمّا أن تهدد إيران بأنّها لم تعد ملتزمة ببنود الاتفاق. لا يقدّم ولا يؤخر في شيء أن تخرج إيران عن بنود الاتفاق.
لم يعد الاتفاق كلّه سلعة تصلح للمساومة والابتزاز. هناك شروط وضعتها الولايات المتحدة. عدد هذه الشروط 12 وفي أساسها عودة إيران دولة طبيعية. لم تقل إدارة ترامب إنّها تريد إسقاط النظام الإيراني، لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه هل إيران قادرة على تنفيذ هذه الشروط والجلوس إلى طاولة المفاوضات، بمعنى أن تعود دولة طبيعية، مثلها مثل أي دولة من دول العالم الثالث أو الرابع أو الخامس…
المهمّ اقتناع إيران أن الملفّ النووي لم يعد بضاعة تصلح لأي مساومة أو ابتزاز من أيّ نوع ما دام الموضوع الأساسي المطروح في مكان آخر. هذا المكان هو السلوك الإيراني خارج الحدود الإيرانية، بما في ذلك الصواريخ الباليستية التي تسعى إيران إلى تطويرها، وهي صواريخ معروفة المصدر، إذ أنّه معروف أنّها تأتي، في معظمها، من كوريا الشمالية.
هناك للمرّة الأولى إدارة أميركية، لا يبدو أنها تمزح. هناك إدارة تعرف أن لا فارق بين إيران وميليشياتها، وأن اللعبة التي تمارسها إيران منذ العام 1979 صارت مكشوفة. صارت مكشوفة في العراق وسوريا ولبنان واليمن. على سبيل المثال، تهدّد إيران في اليمن بإغلاق مضيق باب المندب الاستراتيجي عبر ميليشيا الحوثيين المسمّاة “أنصار الله”. وتهدد من سوريا ولبنان بشن حرب على إسرائيل عبر “حزب الله” وميليشيات أخرى، على غرار الحرب التي شهدتها غزّة أخيرا عن طريق استخدام “حماس” و”الجهاد الإسلامي” في قطاع غزّة المغلوب على أمره.
تقوم هذه اللعبة على تخويف أميركا عبر آخرين. سبق لإيران أن حققت نجاحات باهرة عبر هذا الأسلوب الذي جعل الأميركيين يخرجون من لبنان في 1984 بعد فترة قصيرة من تفجير مقرّ المارينز قرب مطار بيروت في الثالث والعشرين من تشرين الأوّل – أكتوبر 1983. هناك أمثلة كثيرة على نجاح إيران في جعل الإدارة الأميركية تعيد النظر في حساباتها. يبقى العراق المكان الذي مارست فيه لعبتها المفضّلة هذه وأجبرت الأميركيين على الانسحاب منه عسكريا وسياسيا، وإنْ بشكل غير تام، في العام 2010.
تعرف الإدارة بلسان دونالد ترامب وكبار المسؤولين الآخرين، مثل نائب الرئيس مايك بنس ووزير الخارجية بومبيو ومستشار الأمن القومي جون بولتون، أنّ على إيران استيعاب أن قوانين اللعبة تغيّرت. لذلك استهدفت إيران وأدواتها في الوقت ذاته. ولذلك أيضا توجهت إلى المنطقة قوّة ضاربة أميركية تضمّ، من بين ما تضمّ، حاملة الطائرات “أبراهام لنكولن” وأربع قاذفات “ب 52”. إضافة إلى ذلك كلّه، تلقت الرهانات الإيرانية ضربة قويّة عندما اعتقدت أن دونالد ترامب في وضع ضعيف داخليا، وأنّ لا أمل له في ولاية ثانية. جاءت تبرئة الرئيس الأميركي من تهمة ارتباط حملته الانتخابية بالدعم الروسي لتؤكد أن احتمالات إعادة انتخاب ترامب في 2020 أكثر من جدّية.
ماذا ستفعل إيران مع اقتراب ساعة الحقيقة؟ الأكيد أنّها ستستمرّ في الاتكال على أدواتها في المنطقة، خصوصا أنّها تعرف تماما أنّها عاجزة عن الدخول في أيّ مواجهة عسكرية مباشرة مع الأميركيين. ليس ما يشير إلى أنّ هذه الأدوات ستكون قادرة على تلبية مطالبها. الدليل على ذلك أن النظام السوري يسعى منذ فترة طويلة إلى تمرير رسائل طمأنة إلى إسرائيل.
فحوى الرسائل أنه غير مسؤول عن أي مواجهة عسكرية محتملة، وأن لدى إيران حسابات خاصة بها في هذا المجال تختلف عن حساباته. في النهاية، يعرف النظام السوري تماما أنّ إسرائيل هي علّة وجوده وأنّه لولاها، لكان خرج من دمشق، منذ زمن طويل، على الرغم من الدعم الإيراني والروسي…
ما يبدو طبيعيا هو إدراك أن اللعبة تغيّرت وأن التذاكي لم يعد ينفع. لكن السؤال كم من الخسائر ستلحقها بالإيرانيين وبدول المنطقة قبل الوصول إلى مرحلة تواجه فيها الواقع؟ الواقع يقول إن الاقتصاد أهمّ من أيّ شيء آخر وأنّه يصنع قوّة الدول في المدى الطويل، بينما التذاكي لا يمكن إلا أن يرتدّ على أصحابه في مرحلة معيّنة.
خيرالله خيرالله – العرب