عودة: نزع الشعب ثقته من الطبقة الحاكمة
ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عوده، الثامنة والنصف صباح اليوم، خدمة الهجمة ثم قداس الفصح في كاتدرائية القديس جاورجيوس، بغياب المؤمنين هذه السنة.
بعد قراءة الإنجيل المقدس، ألقى عظة بعنوان “المسيح قام من بين الأموات ووطىء الموت بالموت ووهب الحياة للذين في القبور”. قال فيها: “اليوم يوم القيامة، اليوم خلاص للعالم، لأن المسيح قد قام بما أنه على كل شيء قدير. العيد هذه السنة حزين رغم الفرح الذي يغمر قلوبنا، فيما نعيد لقيامة ربنا وإلهنا ومخلصنا الذي مات ليفتدينا بدمه الثمين، ويمنحنا بقيامته الخلاص والحياة الأبدية. فالمؤمنون غائبون قسرا عن خدمة الفصح، واضطروا إلى البقاء في منازلهم طيلة الصوم الأربعيني المقدس، التزاما منهم لتعليمات المسؤولين الروحيين والمدنيين، وحسنا فعلوا لأن الطاعة مباركة، ولأن الحفاظ على صحتهم وصحة الآخرين واجب، وعسى لا يغادرون منازلهم قبل زوال الوباء. في القلب غصة أيضا لأن لبنان وبلاد العالم أجمع فقدوا مواطنين أحباء كانوا ضحية لهذا العدو الغامض، لهذا الفيروس الصغير الذي يكاد يغير وجه العالم وعاداته”.
أضاف: “قرأنا في إنجيل اليوم، في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وإلها كان الكلمة. هذا كان في البدء عند الله. كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كون. به كانت الحياة والحياة كانت نور الناس (يو1: 1 – 4). هو إذا مبدأ الحياة ومعطيها. هو مصدر القوة في الإنسان الذي يفتح له قلبه. يتابع يوحنا: “كان النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آت إلى العالم… إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله. فأما الذين قبلوه فأعطاهم سلطانا أن يكونوا أولادا لله أي المؤمنين باسمه” (يو1: 9 – 12). عندما يصرخ المؤمن، المسيح قام هو يعني أن لا حياة إلا بهذا الإله الذي داس الخطيئة والموت، وانتشلنا من ظلمة الجحيم التي وضعنا أنفسنا فيها بابتعادنا عنه. إنه الطريق والحق والحياة. عطاياه لا تعد ولا تحصى لكن الشاكرين قلة. ليكن هذا اليوم الفصحي المبارك مناسبة للتوبة والعودة إلى الخالق، القدير وحده أن ينتشلنا من وطأة هذا الوباء كما انتشلنا من براثن الموت. فمهما اشتدت الأزمات تبقى يد الرب حاضرة لتبعد عنا كل سوء. ربنا رحوم ورؤوف، طويل الأناة ويشاء الجميع أن يخلصوا وإلى معرفة الحق يقبلوا (1تيم2: 4)”.
وتابع: “يبقى على الإنسان أن يشاء الخلاص، خلاص نفسه وخلاص أخيه الإنسان لأن لا كرامة للانسان إن لم تكن كرامة أخيه مصانة. هنا أود أن أشكر ملائكة الرحمة كلهم من أطباء وممرضين ومسعفين ومتطوعين للخدمة، على كل تضحياتهم ومحبتهم التي تجلت بأبهى الصور. باركهم الله ومنحهم أن يعاينوا مجده في هذه الحياة وفي الآتية. وإذا كانت انعكاسات أزمة كورونا على العالم كبيرة جدا، فإن أزمتنا في لبنان مزدوجة: معالجة تداعيات كورونا ومعالجة وضعنا المالي والاقتصادي والاجتماعي، وهذا يقع على عاتق الحكومة المطلوب منها التحلي بالحكمة والصبر وشجاعة التخلي عن كل ارتباط إلا ارتباطها بشعبها ومصيره. مطلوب منها انتشال لبنان من أزمته من دون أن يدفع المواطن ثمن أخطاء حكامه. مطلوب منها الاهتمام بالأساسيات عوض المحاصصات والمناكفات. مطلوب منها العمل على إنقاذ لبنان لا هذه الفئة أو ذاك الحزب أو تلك الطائفة. مطلوب منها احترام الدستور وتطبيق القوانين، وإرساء مبدأ العدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين. مطلوب منها افتداء الوقت والعمل بسرعة من دون تسرع، لأن التردد وإضاعة الوقت يشدان الخناق على المواطنين الذين يخشون ضياع حياتهم بعد أن أضاعوا آمالهم وأحلامهم وأشغالهم ومستقبلهم، وسطا اليأس على قلوبهم. هنا لا بد من التذكير بأن عناوين الخلاص معروفة لمن يريد أن يعرف، وطرق إصلاح المالية العامة عالجها رجال الاختصاص، وأشار السياسيون قبل الشعب إلى أماكن الهدر والفساد، فحرام مصادرة جنى عمر المواطن وإفقاره عوض الحفاظ على حقه الذي اقتناه بعرق جبينه”.
وقال: “انتفض شعبنا لأنه لم يعد يحتمل الاستغلال. انتفض لحريته وكرامته ومستقبل أولاده، للحفاظ على وطنه وتعبه. شعبنا يستحق الحياة، الحياة الكريمة، وأملنا أن تعمل هذه الحكومة على تأمينها بعيدا من الممارسات السابقة والأخطاء السابقة والتجارب السابقة. أنتم لكل الشعب لا لفئة أو طائفة، ولكل مكونات المجتمع، فلا تدعوا أي فئة تشعر بالغبن أو الظلم أو الغربة. لذا، وبانتظار الدولة المدنية التي نطمح جميعنا إليها، وبما أن دستورنا يكفل حقوق المواطنين كافة، وبما أننا ما زلنا في نظام طائفي، نأمل ألا يكون إجحاف بحق أبناء أي طائفة، وأن يعامل الجميع بالعدل والمساواة. وإذا كانت حكومتكم عابرة للطوائف، فلتكن المداورة في الوظائف سبيلكم، من الوزارات إلى كل المراكز، للحفاظ على حقوق الجميع، مع اعتماد الكفاءة والنزاهة والخبرة، وتطبيق المساءلة والمحاسبة على الجميع”.
أضاف: “نزع الشعب ثقته من الطبقة الحاكمة، فإذا أرادت استعادتها عليها أن تعالج الأمور بوضوح وشفافية وعدل، وأن تستنبط حلولا إيجابية خلاقة، معتمدة على أحكام الدستور وعلى ضميرها، وأن تقوم بالإصلاح الذي وعدت به، الإصلاح الحقيقي، وعلى كل الصعد، لكي ترضي الناس لا الطبقة السياسية وأحزابها. وفي هذه الأزمة الخانقة، على الدولة أن تقوم بواجبها تجاه الفئات الأكثر فقرا. صحيح أن ميزانية الدولة عاجزة، لكن مهمة الدولة الأساسية رعاية شعبها، وكما استطاعوا في الماضي إيجاد الملايين للمشاريع والصفقات، يجب إيجادها الآن لمساعدة المحتاجين”.
وتابع: “هب أفراد المجتمع وجمعياته لمساندة إخوتهم مدفوعين بالمحبة والأخوة، ورأينا حملات جمع التبرعات والمساعدات، ما طمأن قلوبنا أن الإنسانية لم تمت. كذلك عملت الكنيسة بمؤسساتها كافة على مد يد العون لكل محتاج، بتواضع وصمت، عملا بوصية معلمها الذي قال: أما أنت فإذا أحسنت إلى أحد فلا تجعل شمالك تعرف ما تعمل يمينك، حتى يكون إحسانك في الخفية، وأبوك الذي يرى في الخفية هو يكافئك (متى 6: 3 – 4). الكنيسة، منذ نشأتها، جعلت الإنسان محور اهتمامها، لأنها ترى فيه وجه خالقها. لكن عملها لا ينفي واجب الدولة تجاه مواطنيها. وأملنا ألا تخذلهم”.
وختم عوده: “في هذه الأيام المباركة، رغم الحزن الذي يلفها، نرفع الدعاء إلى الرب القائم من بين الأموات كي يحفظكم جميعا، ويبعد اليأس عن قلوبكم زارعا فيها الرجاء والأمل بغد أفضل. نسأله أن يشفي من أصابهم فيروس كورونا ويعزي قلوب من فقدوا أحباءهم بسببه. نسأله أن يبلسم قلوب المتألمين ويرحم كل المحتاجين إلى محبته ورحمته. نسأله أن يعضد المسؤولين في مكافحتهم فيروس كورونا والفيروسات الأشد فتكا كالفساد والنفاق والحسد والخبث والرياء والجشع والاستتباع والتملق، وأن يؤازرهم في كل عمل صالح يقومون به. نرفع الدعاء أيضا من أجل أن يحتضن الرب الإله كوكبنا، وكما داس الخطيئة والموت، أن يدوس الشر والإثم اللذين يعيثان فيه فسادا. كما نسأله أن يزيد الإنسان إنسانية ويؤهله الوصول إلى قياس قامة ملء المسيح. المسيح قام، حقا قام”.