حكي تنور .. صندوق فرجة خالد. (بقلم عمر سعيد)
مرتان فقط، أتى فيهما صندوق الدنيا ( الفرجة) إلى قريتنا.
المرة الأولى كانت صيفاً، آخر أيام البيادر..
أذكر أني كنت أصغر من أن أتذكر، لكني لا زلت أفعل.
كنت ألعب خلف أمي، التي كانت تنظف تجاويف الصخر على بيادر “البومة” مما علق فيها من حبوب..
كنا أسرة معسورة، ولم أكن من الذين يعون معنى “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان”
ولشدة طفولتي لم أكن أعي إلا أني لن أحيا بغير الخبز الحاف.
وقد كان يشكل معظم وجباتنا اليومية، لدرجة أننا كنا إذا أحضر أبي مرة وهو في طريق عودته من زحلة “خبز افرنجي” كما كنا نسميه، كنا نأكله ” غماس ” داخل عروسة خبز التنور.
كانت أمي تحمل كيس القنب، ومكنسة خشنة من صنع يديها، وتقصد بيادر ” البومة” ، لتنكب على كنس بقايا العرمات، ومفردها عرمة، وهي أحمال الدواب من قمح وشعير وغيرها، والتي كانت بعد أن تنقل من الحقول، تكدس فوق بعضها البعض كالكثبان.
وقد أعدت ليدور فوقها نورج يجره حماران، تدريجياً بدءاً من الأطراف.
كانت بيادر ” البومة ” أفضل من سواها، لأنها كانت عبارة عن صفائح صخرية، فيها الكثير من الحفر الصغيرة، تحوي في تجاويفها مقدار كمشة، أو زَور حبوب، يتركها صاحبها للطير، أو لأمي، وأمثالها..
في مثل تلك الأيام تكون البيادر حدائق ألعابنا، نحن الأطفال، الذين لحقنا بأمهاتنا إلى البيادر.
حيث كنا نختبىء خلف كومة تبن هنا، أو أكياس حبوب هناك..
كانت نساء الجوار تحرص على مرافقة أمي لهن، لا ليتصدقن عليها، كوننا لم نكن نقيم عرمتنا كباقي أصحاب الحقول؛ الذين ما كنا منهم، بل لعذوبة صوتها، فإذا غنت، اشعلت البيادر بالزغاريد, والإشادات, والحنين.
وصل بائع الفرجة إلى البيادر. أقام صندوقه فوق سيبته الرباعية السيقان، وراح ينادي:
” الفرجة بفرنك، الثلاثة بعشر قروش.. قرب تفرج على فارس الفرسان عنتر، راكب على الأبجر، بالساحة يتمختر..”
أذكر أن الأطفال، قد راحوا يتقاطرون أمام الصندوق، كل يحمل بِثَنية أسفل قميصه زور حبوب، غربلته أمه، وقدرت قيمته بما يرضي البائع.
رفضت أمي طلبي، ولم تمنحني ثنية، كباقي الأطفال..
لكني لم أكف عن إلحاحي، حتى وقفت في تلك القاطرة..
وكانت المرة الثانية أيام الدراسة، وكرد فعل على المرة الأولى، لم أتجرأ على الوقوف في القاطرة، فقد ظلت لحظة فراري بعد المرة الأولى، وقد صرخت مفجوعاً، وسط تضاحك النسوة والصغار، ثم هرعت إلى حضن أمي التي احتضنتني، وظلت تمسح دمعي، وشعري إلى أن غفوت، بعد أن حشرت حلمة صدرها في فمي، تكتم صوتي بالرضاعة، فقد تأخر فطامي أكثر من المعتاد، لأني كنت وحيداً على خمس بنات. ظلت تلك التجربة تطاردني في أحلامي سنوات طوال.
ولا زلت وإلى اليوم، أتجنب ذكر ما كان داخل ذاك الصندوق.
كبرت، وصار لدينا في بيتنا صندوق فرجتنا المدهش؛ ذلك التلفاز الخشبي.
ثم رحت أقصد المدينة. أدخل صناديق فرجتها ( السينما ) من فترة لأخرى، دون أن تغادرني تجربة صندوق الفرجة في بيادر البومة.
إلى أن دخلتُ صندوقاً، امتدت عوالمه في داخلي، ولا زالت تتسع، منذ أن انطلقت بصوت أبي، كلما تمدد بعد عناء يوم متعب، وأخذ يلقي مرندحاً قصائد كان يحفظها.
ثم طفقت صناديق الفرجة ترتص فوق بعضها البعض في مخيلتي، كلما قرأ معلمو المدرسة نصاً على مسامعنا، أو قاموا بفتح مجاهله أمام مخيلاتنا.
حتى أدركت مع نضج تجربتي في القراءة والاطلاع، أن أجمل صناديق الدنيا وأشدها دهشة، وجمالاً، وخلوداً، هو الشعر.
ذلك الصندوق الذي لا تتكرر فرجته، وإن أدخلت رأسي في فتحة كمه القماشي الأسود ألف مرة في القصيدة الواحدة.
فالنص الشعري صندوق فرجة خالد، يأتيك من عوالم وبعوالم، لم ولن تتوقعها أبداً.
وأعذب ما فيه، أنك لست تضطر للتقاطر أمامه، ولن يجفلك ما فيه، ولا أبالغ إن قلت: أنه قد يكون أمك التي احتضنتك، وراحت تمسح دمعك، وروحك، وتغرس بإصابعها حلمة ثديها التي لن تجف في فم مخيلتك؛ التي لن تعرف الفطام مهما كبرت.
عمر سعيد