حكي تنور .. أنا من القنيطرة! (بقلم عمر سعيد)
أنا من القنيطرة!
ثم يصدح صوت فيروز: “وسلامي لكم”
يتوسط المذياع جلوس أبي وأمي فوق حصير القش الذي كان يترك أثلاماً في سيقان وأعجاز الجالسين..
تمسح أمي أنفها ودمعها بطرف منديلها الأبيض، فيما يختفي وجه أبي خلف دخان سجائر تبغه العربي.
كان هذا ما أدمنا سماعه عبر إذاعة “صوت العرب من القاهرة”
وبين رسائل تبث من فلسطين، وتهديدات المذيع أحمد سعيد، وعجز أبوي أمام المذياع، كان السؤال الذي تلقيت بعد طرحه كفاً جعلني أرتطم بالجدار من الجهة الأخرى!
بقيت أنصت إلى رسائل الأهل في الأرض المحتلة لدقائق طويلة..
ثم قاطعت المذياع، وتوجهت لأبي بسؤال:
– أليست فلسطين محتلة؟!
فأجاب: بلى.
قلت:
أوليس الدخول أليها والخروج منها صعباً؟!
قال أبي: بل مستحيل!
قلت:
– وصوت العرب، من أين تبث برامجها؟!
فأجاب أبي بكل ثقة واعتزاز:
– من القاهرة في مصر!
قلت:
– وكيف تصل رسائل كل هؤلاء الناس إلى الإذاعة في القاهرة؟!
انتفض أبي وقد باغته السؤال!
وقال بحزم وحدة:
– بل، تصل.. تصل..
لكني، أعدت السؤال متواقحاً.
فزجرني بنظرة، ثم قال:
“إبن طيزي بدو يعلمني!”
وأجبته ببرودة: وأين المشكلة؟!
أذكر أني أفقت على كفيَّ فوق صدغيَّ اللذين ارتطما بكف أبي من جهة، وبالجدار من أخرى.
ثم طلب مني أن أعيد المذياع إلى جارنا الذي كان يعيرنا إياه كلّ يوم في مثل هذا التوقيت، لسماع نشرة الأخبار وبرنامج ” سلاماً وتحية ”
وقد اشترط علينا؛ أن نتقاسم معه ثمن بطارياته، فتكون مرة علينا، وأخرى عليه.
كان المذياع متوسط الحجم ذا حقيبة يمكن تعليقها إلى الكتف، كنت في كل مرة لا أعيده إلى صاحبه إلا إذا سرقت لنفسي عشر دقائق أفتش فيها عبر محطاته، محاولاً فهم العلاقة بين ذلك المؤشر البني الذي يمر أفقياً فوق شريط الأرقام، وبين مفتاح الدوران الذي يلف يميناً أو يساراً.
ثم صار لنا مذياعنا الخاص، الذي كنا ندلله جميعاً، ونرعاه بكل حرص وحذر، لأنه كان نافذة أبي على خطابات عبدالناصر، وأغاني أم كلثوم التي كانت تصلنا مليئة بالپرازيت، أكثر من المضامين التي لم أكن أعي أبعادها..
مات عبدالناصر، ثم ماتت أم كلثوم، وماتت إذاعة صوت، وبدأ بعدها موت العرب تدريجيا، ومات المذياع، وحل محله التلفاز..
إلا أن الشيء الوحيد الذي لم يمت فيّ هو ذلك الطفل الذي لا زال يبحث عن جواب، خَلّفه سؤال، سَبَقَ ذلك الكف الذي آلمني سنوات.
بحثت.. وفتشت؛ لأحصل على جواب عن كيفية وصول الرسائل من داخل فلسطين إلى مكتب إذاعة صوت العرب.
فاكتشفت أن كل تلك الرسائل، التي كانت تبكي أمي ومعظم الأمهات العربيات، وتطبق على روح أبي، وتثير حنق كل الآباء العرب ضد إسرائيل، فيقع الرد المناسب في الوقت المناسب على الجزء المناسب في الأسرة ( الأطفال)، ثم اكتشفت أن الأمر برمته، لم يكن أكثر من مجرد طريقة من طرق تعبئة الجماهير عبر تسجيلات، كانت تعدّها المحطة في واحد من استديوهاتها بأصوات ممثلين يتلقون بدل أتعابهم، كجزء من الدعاية الحربية، لم يتقنها إلا عرب القرن الماضي من التاريخ.
وهذا ما جعلني، أقتنع أن لا قضية للعرب، وما فلسطين إلا أشبه بواحد من برامج المواهب التي تقدمها محطات التلفزة بكل كواليسها، وقد قدمت للمصفقين أبطالاً وهميين، قدسناهم بتماثيل وشوارع وساحات، تكلف عمال النظافة الكثير من العبء لتنظيف مخلفاتنا فيها من أعقاب سجائر، وبول، وبراز، وحفاظات أطفال، ونفايات.
وأن القضية الحقيقة هي أني أدركت – وأنا الطفل الصغير قبل أبي وقبل جدي- أن أصل النار التي تنبعث من حطب التنور المشتعل أهم بكثير من حجم الدفء الذي تبعثه في أجساد المتحوقين حولها، ذلك لأن الطلاء مهما كان لامعاً لا بد أن يكشف عما تحته مهما تأخر الوقت.
عمر سعيد