ما معنى أن يموت مبدع؟ (بقلم عمر سعيد)
تهاوى ثالث أعمدة السماوات الإبداعية التي رفعها الرحابنة، لتمطر الموسيقا في أرواح البشرية على مدار أكثر من نصف قرن
فما معنى أن يموت مبدع؟!
ومبدع كالياس الرحباني؟!
أن يموت مبدع يعني أن يصاب الجمال في مقتل من مقاتله التي قد تودي بالروح السامية للأمة ولو إلى حين..
تلد الأمم كل يوم آلافاً من الكتل اللحمية، لكن أنى لأمة أن تلد ضوءًا؛ يشع من سفوح صنين، ليسطع في وجه الخالق فرحا فجرته ذؤابة عصا مايسترو عرف كيف يوائم محبة السماء بعناد الأرض، فنشره عذوبة تجوب الجغرافيا والزمن.
أن يموت مبدع يعني أن تفقد قهوة الصباح حضورها المميز، وأن تغدو هدهدات الأمومة همهمات بلا حب، وأن يفقد الوتر اهتزازه، والإيقاع تردداته، والليل مسارحه التي كانت تضج بالحالمين، وأن تصبح مطاعم ومقاهي وادي العرايش فارغة إلا من الأجساد.
أن يموت مبدع يعني أن تمتلىء الحقول سنابل لا لمعان فيها، ولا خشخشات تصدر عن احتكاك قصباتها.
أن يموت مبدع يعني أن تُستنبت زهور الأرض كلها في بيوت زراعية، تستمطر أسقفاً مستعارة.
أن يموت مبدع يعني أن تنحسر المراعي أمام قطعان الماشية وأسراب النحل والفراش.
وأن يبتلع الصمت أصوات الرعاة الذين حتماً سيفقدون طريق العودة إلى قراهم، وقد فقدوا موسيقا الحنين.
فمن يحدد جهات الحنين، إذا مات مبدعو الوطن؟!
أن يموت مبدع يعني أن تصبح الصلوات في الكنائس والمساجد كلمات بلا رسائل، فلا تتهادى أنغاما كجداول الفرح التي خلفها فينا بيت الرحابنة طوال عقود.
أن يموت مبدع يعني أن يموت الفرح المجاني الذي كان يسند الفقراء وباعة الأرصفة وسائقي تكسي الصباح والمساء في جوعهم وخوفهم وحزنهم وخسائرهم.
أن يموت مبدع يعني أن ينهك الوطن، ويصبح سجناً لا شمس وراء قضبانه ..
بل مجرد محاضر تتلى واستجوابات.
أن يموت مبدع يعني ألا تنتج بيادر الريف بعده مواسم سهر وغناء، وأن يقفر امتدادها على فراغ.
أين يموت مبدع يعني أن يصبح المرء مهدداً في ماضيه وحاضره ومستقبله وحبه وفرحه وحزنه.
أن يموت مبدع يعني أن يسقط من الأرض إله صوب السماء، وقد ضاقت بها التجربة البشرية الفاشلة..
أن يموت مبدع يعني أن يؤكد للكون أن الأرض في مدارها أعلى من السماء..
فالأرض تكافح بما يملك أولئك المبدعون من ألم وصبر ورجاء.
يسقطون ويقفون ثم يسقطون ثم يقفون، ثم يموتون لأن الأرض ترفض أن تساوم على الحرية والجمال.
وأجمل الموت موت يثبّتُ الكون بأوتاد تنبت من أرض لا تبور، تلك هي أرض لبنان.
عمر سعيد