العيش المشترك (بقلم عمر سعيد)
أظن أن كافة المحافظات اللبنانية يسكنها لبنانيون من كافة الطوائف والأديان، وأن كل المدن اللبنانية تكتنف كل اللبنانيين بأطيافهم الثمان عشرة طائفة، كذلك إن مئات البلدات اللبنانية ذات مزيج طائفي ديني.
والطبيعي أن ترى شيعياً أو سنياً أو درزياً، يسكن جونية ذات الأغلبية المسيحية، وأن يسكن صيدا ذات الأغلبية السنية آلاف من غير السنة، والأمر نفسه في طرابلس وزحلة وبعلبك وعالية وغيرها من كبريات المدن.
والقانون اللبناني المثبت في السجلات والمراجع والدستور لا يتضمن أية إشارة إلى الطائفة أو الديانة في المفاضلة بين حقوق المواطن وواجباته وفقا لطائفته.
وبهذا نستنتج أن لا مشكلة بين اللبنانيين في أي من العلاقات، أو الوظائف أو الحقوق أو الواجبات.
لذلك فإن مصطلح العيش المشترك ليس أكثر من فكرة في رأس السياسي الذي يستثمر فيها قبيل تشكيل الحكومات والانتخابات، خاصة في مواسم التوظيف.
والقطاع الوظيفي في لبنان يشهد على وجود موظفين من كافة الأديان والطوائف في المؤسسة العسكرية والأمنية، وفي وظائف وزارة الصناعة والتجارة والسياحة والثقافة والتربية وباقي الوزارات.
وما اختلاف النسب في التوظيف من وزارة إلى أخرى طائفياً ألا بسبب هيمنة السياسي عليها.
فلو أن بلدة لبنانية ليست ذات أكثرية شعية، شكلت لائحة لمجلسها البلدي برئاسة شيعي لا يوجد ما يمنعه قانونياً ولا اجتماعياً.
وقب الياس نموذجا لتجربة بلدية قادها مرة سني وأخرى مسيحي.
لكن المنع ينتج عن أتباع السياسيين وعن الذهنية السياسية التي رسخوها في عقول مناصريهم.
وبالأمس حصلت انتخبات في الجامعة الأمريكية في بيروت فاز فيها النادي العلماني والمستقلون ب 15 مقعداً من أصل 19، دون أن نسمع عن التوزيع الطائفي لتلك المقاعد، وإن كانت طلابية فقط.
فالتعايش مجرد مسخرة فكرية انتجتها بعض المرجعيات الدينية التي تخدم المركز السياسي الذي نصبها.
ولقد تاريخيا خلال الدفاع عن لبنان ضد الاحتلالين السوري والصهيوني، مناضلون من كافة الطوائف اللبنانية.
فقد استشهد إلى جانب مقاتلي الكتائب والقوات اللبنانية كأبرز حزبين مسيحيين مقاتلين سنة، بغض النظر عن العدد، ذلك لان العزلة الجغرافية التي فرضها ذانك الاحتلالان على المناطق لعبت دوراً بارزاً في جعل المناطق ذات بعد طائفي كواحدة من أساليب السيطرة على الوطن.
وكذلك حصل مع التقدميين والأحزاب العلمنية من شيوعي وناصري وبعثي عراقي وغيرها.
وحدها الاحزاب المذهبية التي أسسها السوري والإيراني بالتشارك مع الصهيوني فرضت الطائفية في تولي قيادتها وفي عملها السياسي والعسكري على مستوى الوطن.
لذلك ظهر مصطلح العيش المشترك متاخراً على الحياة السياسية في لبنان، وإن كنت لا أذكر فترة ظهوره بالتحديد.
ولتأكيد وجهة نظرنا، لو تأملنا المشهد العراقي بعد سقوط الرئيس الراحل صدام حسين، نرى ملامح المناداة بالعيش المشترك هناك كواحدة من أدوات استعداء الطوائف لبعضها البعض على أيدي السياسيين الذين أتت بهم الهيمنة الإيرانية، تشبه الحاصل في لبنان.
وكذلك سيكون الوضع في سوريا في الوقت القريب إن لم تتراجع الهيمنة الإيرانية.
إذا فإن مصطلح العيش المشترك هو واحدة من أدوات إدارة سيكولوجيا الجماهير.
تزداد حدة العمل بها وفقا لضوابط اللاعبين، فإن أراد زعيم ما توجيه رسالة ما لخصمه، افتعل مشكلا فردياً كساه ثوباً دينياً، يجعل طائفته كلها تستنفر، ليظهر على الشاشات ينادي بالسلم الاهلي والعيش المشترك.
علماً أننا كمواطنين لا زلنا ومنذ عقود نتلقى التهاني بمناسباتنا الدينية من بعضنا البعض ونعيدها وفقا لرزنامتها السنوية.
ونتعشى في جونية صوت عاصي الخلاني الشعي ونتحلى في طرابلس على صوت فيروز المسيحية، ونفطر في بنت جبيل على صوت صباح، ونتغدى في بعلبك صفيحة فضل شاكر، لنشرب بعدها القهوة في البردوني في زحلة، دون أن نعرف اسم الطاهي او الشخص الذي يخدمنا في الصالة أو مواقف السيارات، ولا ديانة المطرب الذي يسامرنا بصوته أثناء جلوسنا.
لم أسمع عن لبنانيي تشاجر مع آخر بسبب اسمه او مسجده أو كنيسته أو معبده، ولا بسبب ما يعلق في صدره من رموز، ولا بسبب كاتبه المفضل.
بل إن الشجارات تقع بسبب زعماء وظفوا لخدمة مشاريعهم على الأرض مجموعات من الحمقى والجهلة الذين يفتعلون الأزمات الممنهجة واتباعاً لرزنامة، تهدف إلى تثبيت مفهوم العيش المشترك في لا وعي الناس، فيصبح تقبلي للآخر تقبلاً مؤقتاً وعلى مضض.
وبالتالي يصبح وجود الزعيم هو الضمانة الوحيدة للفصل بين فصائل الكلاب التي تتنابح على بعضها البعض فتتسبب بخلافات مجتمعية تستدعي تدخل الزعماء.
إن الساحات التي ملأها ثوار 17 تشرين في لبنان تؤكد أن لا قيمة لمفهوم العيش المشترك، وأن تلك الاكذوبة ساقطة، وأوضح الأدلة أولئك الذين كانوا ينزلون بعصيهم وأسلحتهم وغبائهم لاستنهاض نظرية زعيمهم في العيش المشترك.
فلا ينبغي للبنان ان يكون بلد عيش مشترك، بل يجب أن يكون بلد دستور وقانون يحمي الحقوق والواجبات، ويضع الطائفة والدين والمذهب بكافة دور العبادة التي تخصه تحت سقف القانون، فلا تعلو عمامة ولا يعلو رأس فوق ارتفاع مطرقة القضاء المحتكم بالقانون فقط.
وبالتالي يصبح لبنان وطن الجميع، وليس وطن المقيمين فيه على مضض.
عمر سعيد