الشعب يريد إستقالات وإنتخابات مبكرة
هي الاحتجاجات الشعبية الأوسع والأكبر والأهم ربما في تاريخ لبنان الحديث، وهي تسمح بالتكهن أن حصيلتها ستكون تغييراً سياسياً جذرياً في تركيبة السلطة وجدول أعمالها وحتى في هويتها، يحول دون خضوع البلد لتجربة يونانية مريرة.
هي الاحتجاجات التي ليس لها حتى الآن إسم علم واحد، ولا حتى شعار موحد. لا وجود فيها لأي حزب او تيار او حركة، أو نقابة او إتحاد عمالي، ولا حتى هيئة من هيئات المجتمع المدني، التي ملأت الساحات والشاشات صراخاً طوال السنوات العشر الماضية، ولم يكن لها أثر في ليل لبنان الذي إشتعل بالغضب الشعبي العفوي الذي لم يسبق له مثيل، لا في كسره الحواجز الطائفية والمذهبية، ولا حتى في سلميته التي كشفت عن وجه مميز للبلد، لم يلطخه سوى الاعتداء النافر على موكب الوزير أكرم شهيب.
بداهة القول ان الاحتجاجات الشعبية وحدّت اللبنانيين أكثر من زجليات وفولكلوريات الوحدة الوطنية والعيش المشترك، تبرر تخطي حالة التردد، والمبالغة التي كان الجميع يقع فيها عندما كان يود إستخدام عبارة “الشعب اللبناني”، التي لم يكن لها في الادبيات السياسية اللبنانية، المعنى نفسه المتعارف عليه في بقية بلدان العالم.”الشعب” هنا، كان على الدوام شعوباً، وكانت العبارة تحتمل الكثير من المجازفة بل السخرية، حتى عندما كانت تصدر عن رئيس الجمهورية او البرلمان او الحكومة.
الشعب اللبناني موجود بالفعل، لا بالنص. وهذا إنجاز كبير. القضية المعيشية جامع مؤثر، وحافز مهم لبلورة الهوية الوطنية. وعدا عن سذاجة وركاكة الشعار المستورد الذي تردد في ليل بيروت: “الشعب يريد إسقاط النظام”، فإن الاحتجاجات، كانت ولا تزال ، حاسمة في تعبيرها عن موقف مناهض لجميع أهل السلطة، من دون إستثناء، ولم يقبل محاولة معظم أحزاب تلك السلطة وقواها الممثلة في الرئاسات الثلاث والحكومة ومجلس النواب، ركوب الموجة الشعبية والتنصل من مسؤولية الازمة الاقتصادية الاسوأ والاخطر.
وعليه يمكن التقدير بأن الاحتجاجات تمثل بالحد الادنى نسبة 51 بالمائة من الناخبين اللبنانيين، الذين قاطعوا الانتخابات النيابية الاخيرة العام الماضي، كما تعكس وجهة نظر غالبية ثلثي “الشعب اللبناني”، التي إكتشفت، بعد إقفال مراكز الاقتراع، أنها وقعت في فخ قاتل، يمدد الصراع السياسي، بل يستعيد بعض أسوأ مظاهره الموروثة من الحرب والاهلية، ويعجز عن إيجاد الحد الادنى من الحلول الاقتصادية والمعيشية، المبنية على مكافحة الفساد ووقف الهدر ومنع الاحتكار، لاسيما في القطاعات الاستراتيجية الثلاثة، الخبر والنفط والدواء.
الاحتجاجات هي في التعريف الأول والابسط حركة شعبوية ثابتة، أكبر من حركة السترات الصفراء الفرنسية مثلا، وأهم من موجة التظاهرات اليونانية. هي تشبه التظاهرات العراقية والمصرية الاخيرة، وتقرب من الانتفاضة السودانية التي إسقطت الحكم ولم تسقط النظام. وهي بهذا المعنى أقوى من أن تنطفىء بين ليلة وضحاها، قبل ان تحصد مكاسب اقتصادية وسياسية مؤثرة، تتجاوز إسقاط ضريبة الواتسآب الهامشية، التي كانت شرارة لكنها لم تكن قضية، حسب الإعترافات التلقائية للمحتجين أنفسهم، والتي كانت في معظمها متقدمة على أي خطاب رسمي، سياسي او اقتصادي.
السؤال الآن، كيف يمكن لهذه الحركة الشعبوية، المتمردة على جميع الانتماءات السياسية، أن تنال مطالبها: ما زال من الصعب التكهن بان مثل هذه الاحتجاجات ستؤدي الى فرض الدعوة الى إنتخابات مبكرة رئاسية ونيابية، والى إستقالة مستعجلة ونهائية للحكومة كاملة، وليس فقط لأحد وزرائها.. لكن مجرد طرح هذا المطلب، أي فتح صناديق الاقتراع الرئاسي والنيابي، هو في المعايير اللبنانية إنجاز تاريخي كبير.
ليل لبنان الدامس يضمر مثل هذا المطلب، ويستدعيه. وهذا أقل ثمن يمكن تقديمه للإحتجاجات التي اضاءت العتمة، وحرمت فريق السلطة من اللجوء الى خياره التقليدي الأثير: القمع والقوة والعنف.
المصدر : المدن