لبنان

ردود تكشف الفراغ الفكري: بين الخضوع للسلاح والهروب من الحقيقة

بقلم تادي عواد

في اللحظة التي قرّر فيها سمير جعجع وضع النقاط على الحروف وإعادة تعريف جوهر أزمة لبنان – أي حصرية السلاح واحتكار القرار خارج الدولة – سارع بعض أركان السلطة والمستفيدين من منظومة الوصاية إلى شنّ هجوم مضاد، لا يحمل محتوى سياسيًا بل دفقًا من الانفعالات والاتهامات الأخلاقية الفارغة.
الهجمة لم تكن دفاعًا عن الدولة، ولا عن الدستور أو المؤسسات، بل كانت دفاعًا عن التسوية التي كرّسها الخوف، وعن الشراكة غير المتكافئة مع السلاح.

المصادر الوزارية، التي سارعت إلى انتقاد «اللغة العالية النبرة» لدى جعجع، قالت ل «الديار» أكثر مما أرادت قوله. فبحديثها عن «حقل الألغام» الذي يتحرك فيه رئيسا الجمهورية والحكومة، اعترفت صراحة بأن الدولة تتحكم بها قوة خارج منطق الدولة، وأن وظيفة الرؤساء اليوم ليست مواجهة هذه القوة، بل تفادي انفجارها. وهذا اعتراف مباشر بأن الأزمة الحقيقية ليست في الخطاب، بل في السلاح نفسه.

لغة الانكسار بدل لغة الحكم

الردود الصادرة لم تكن سياسية الطابع، بل حملت نبرة ذمّية متأصلة في العقل الذي اعتاد الخضوع لوصاية دمشق سابقًا، ثم لوصاية طهران لاحقًا.
فالذين صمتوا أمام أجهزة الأمن السورية بالأمس، وانحنوا أمام فائض القوة الميليشياوية اليوم، لم يجدوا ردًا سوى اتهام جعجع بـ«شدّ العصب» و«التحريض».

لكن ماذا يسمّون الصمت عن مصدر الخوف؟
ماذا يسمّون التعايش القسري مع سلاح فوق الدستور؟
ماذا يسمّون التخلي المتعمد عن سيادة الدولة مقابل استمرار السلطة ومكاسبها؟

هي ذمّية سياسية مكتملة العناصر، مترسخة في المؤسسات وفي الوجدان، تتحرك عند كل مواجهة مع الحقيقة.

جبران باسيل… خطاب أخلاقي على قاعدة المصلحة

ردّ رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل لم يخرج عن حدود المزايدة الوجدانية.
استحضر البابا والسلام والتعايش ليدفن جوهر النقاش: السلاح وخنقه للدولة.
فالسلام الذي يتحدث عنه باسيل ليس سلامًا سياديًا، بل سلام الغطاء السياسي لتفاهم مار مخايل، الذي حوّل الدولة إلى موقع ملحق بالسلاح.

وهنا يمكن القول إن باسيل لم يدافع عن الدولة بل دافع عن شريكه، لأنه يعرف أن سقوط السلاح يعني سقوط المنظومة التي تحفظ له موقعه ونفوذه.

طوني فرنجية… خطاب الإنكار الأبدي

أما طوني فرنجية، فاختار الهجوم عبر لغة تُخفي أكثر مما تكشف: «إنجازات العهد، بناء الدولة، الفعالية…».
أي دولة؟
هل هي دولة الانهيار المالي، دولة الحدود المستباحة، دولة الغاز المسروق والنفوذ المسلح؟
أي فعالية في زمن الانهيار الشامل؟
أي إنجاز في عهد سقط فيه الاقتصاد والمؤسسات ونزف المجتمع؟

ما يعلنه فرنجية اليوم هو استمرار المنطق ذاته الذي حكم العلاقة مع السلاح منذ التسعينيات: أن الدولة لا تُبنى إلا بمساكنة القوة المسلحة، ولو على ركام الوطن.

الجوهر الذي لا يريدون المسّ به

الهجوم على جعجع ليس سياسيًا بقدر ما هو دفاعي غريزي.
فمجرد طرح مسألة السلاح خارج الدولة، ولو بالكلمة، يهزّ أسس التسوية التي قامت عليها السلطة منذ 2005: التعايش الإجباري مع ميليشيا فوق القانون وفوق الجمهورية.

إن من يطالب جعجع بـ«تهدئة النفوس» يدرك أن النفوس ليست مضطربة بفعل خطاب، بل بفعل واقع أمني وسياسي قائم على سلاح يعلو على الشرعية.

الخلاصة: أزمة جذرها الخوف

من خلال ردودهم، قال هؤلاء ما لم يجرؤوا على قوله مباشرة:

نحن نخشى المواجهة مع حزب الله

نحن نتحرك في ظل تهديد دائم

نحن نتجنب الانفجار لأن قرار الحرب والسلم ليس في أيدينا

هذه ليست تحليلات، بل مضامين وردت في بياناتهم، وإن بلغة مُغلّفة.

إنه الانكشاف السياسي الكامل: سلطة تخاف من خصمها أكثر مما تخاف على دولتها، ومعارضة تقول ما يجب قوله.

وهكذا، لم يكن خطاب جعجع صاخبًا بقدر ما كان مرآة كشفت هشاشة خصومه.
بين الحقيقة والمجاملة، اختار هو المواجهة، فيما اختاروا الصمت المهادن.

ولبنان، في لحظته الأخطر، يحتاج إلى من يقول الحقيقة، مهما كانت عالية النبرة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى