لبنان وفرنسا، الطّلاق الأخير
شادي الياس
أدّت الحرب الفلسطينيّة الإسرائيليّة إلى اهتزاز في العلاقات الدّوليّة، ما استدعى لكلّ دولة أن تصدر مواقفها من هذه الحرب ومن القضيّة الفلسطينيّة، حتّى بدأت الزّيارات الرّسميّة من الدّول العظمى إلى إسرائيل. تأخّرت، بشكل ملحوظ، دولة فرنسا في مواقفها وزيارتها التي تمّت الثّلاثاء الفائت. من هنا، يجب طرح أربعة أسئلة أساسيّة، وسنجيب عنها في ما يلي.
١- لماذا تأخّرت فرنسا أسبوعًا حتّى أدلت بمواقفها وقامت بزيارتها؟
٢- ما هي التّحدّيات الفرنسيّة الدّاخليّة التي عقّدت هذه الزّيارة ؟
٣- كيف نقرأ موقف فرنسا إقليميًّا وعربيًّا؟
٤- ما هي انعكاسات الموقف الفرنسيّ على لبنان؟
٥- الخلاصة.
أوّلًا: بعد زيارة الرّئيس الأمريكيّ جو بايدن ورئيس الوزراء البريطانيّ ريشي سوناك إلى إسرائيل لتجديد الجسر الجوّيّ الجديد لعام ٢٠٢٣، لاحظ المراقبون والشّعب الفرنسيّ تأخير إطلاق المواقف الفرنسيّة الرّسميّة، علمًا أنّ الأمّة الفرنسيّة مرتبطة، بشكلٍ وثيقٍ، بالحرب الإسرائيليّة والقضيّة الفلسطينيّة، وسنشرح ذلك في ما يلي.
ثانيًا: فرنسا بتركيبتها الاجتماعيّة المعقّدة مثل العديد من البلدان، أظهرت حرب إسرائيل شارِعَين مُستقيمَين لا يلتقِيان، هما الشّارع القوميّ اليهوديّ والشّارع القوميّ العربيّ المسلم تحت شعار الهويّة الفرنسيّة. فهذا التّوازن الاجتماعيّ وحده كفيل بإشعال حرب أو احتجاجات دمويّة داخليّة. كما يمكن اعتبار أنّ عدم التّدخّل الفرنسيّ لإنهاء الحرب في اسرائيل سينعكس سلباً على الدّاخل الفرنسيّ، بهجرة غير مسبوقة من الفلسطينيّين واليهود المدنيّين، ما يزيد الأعباء الاقتصاديّة، وفي كافّة القطاعات، على فرنسا.
ثالثًا: غربيًّا، بعد الزّيارات الأميركيّة والبريطانيّة والتّأكيد على الدّعم الكامل لإسرائيل، أصبح من المستحيل على فرنسا الخروج من هذا المحور. أمّا شرقيًّا، فإنّ لفرنسا العديد من المصالح، حتّى بين الدّول المتخاصمة مع لبنان، مصالح جيوسياسيّة ووعود بغاز ونفط في البحر اللبنانيّ، مصالح كرّست أطيب العلاقات حتّى في التّواصل اليوميّ مع حزب الله. في دول الخليج، كثيرةٌ هي الاستثمارات الفرنسيّة، في كلّ القطاعات في العالم العربيّ والإسلاميّ. وطبعًا المصالح الأكبر هي مع دولة إسرائيل المصدر الأساسيّ للطّاقة من الشّرق الأوسط.
رابعًا: لا شكّ في أنّ الحرب سبّبت إحراجًا كبيرًا للفرنسيّين، كون علاقاتها ممتدّة إلى جميع المكوّنات في الشّرق الأوسط، فالموقف الفرنسيّ هو مُجبر أن يكون مع طرف ضدّ الآخر. بالإضافة الى نتائج التّنقيب من شركة توتال الفرنسيّة بأنّ لبنان ليس لديه غاز ومشتقّات نفطيّة، وبالتّالي سقطت المصالح الفرنسيّة مع لبنان. فكانت لافتةً زيارة الرّئيس الفرنسيّ لتل ابيب معلنًا أنّ فرنسا تدعم إسرائيل بشكل كامل. وقد قال إنّ فرنسا وإسرائيل تواجهان “عدوًّا مشتركًا” هو الإرهاب، وإنّ حماس هي داعش. وبادر بإطلاق تحالف إقليميّ دوليّ لمحاربة حماس.
في الخلاصة: يمكن استنتاج ما يلي: كلّ الأطراف اللبنانيّة وضعت آمالها يوماً ما على فرنسا. في التّاريخ، تميّز الموارنة في لبنان بعلاقات قويّة اعتبروا فيها أنّها الغطاء الدّوليّ والتي ساهمت في إنشاء دولة لبنان الكبير ولا ينكرون ذلك. أمّا من وجهة نظر الفرنسيّين فكانوا يعتبرون أنّ مدخل الشّرق الأوسط يدخلونه من بوّابة البطريركيّة المارونيّة التي أمّنت الملاذ الفرنسيّ للعلاقات الدّبلوماسيّة في الشّرق الأوسط.
بعد هزيمة المسيحيّين وتكريس اتّفاق الطّائف، تخلّت فرنسا عن الموارنة وانتقلت الى الحاكم التّالي، إلى السّنّيّة السّياسيّة.
عقدًا من الزّمن، تميّز لبنان بدعم فرنسا وإقامة مؤتمرات دوليّة لدعم لبنان، مثل باريس ١ وباريس ٢ في عهد الرّئيس رفيق الحريري، المرحلة التي ينظر إليها المراقبون فيظنّون أنّ ارتباط قصر الايليزيه بالرّئيس رفيق الحريري أبديّة.
بعد انسحاب العدوّ الإسرائيليّ واغتيال الرّئيس رفيق الحريري، انتقلت التّحالفات الفرنسيّة إلى الطّرف الآخر الذي أصبحت له السّيطرة الكاملة على القرار الاستراتيجيّ اللبنانيّ. فكانت صدمة اللبنانيّين من قلّة وفاء فرنسا التي كانت مواقفها ضدّ الإنسانيّة والمصلحة اللبنانيّة، مثل إطفاء ثورة ١٧ تشرين وعدم الوفاء بالوعود عند عرقلة الدّعوة إلى تحقيق دوليّ في انفجار مرفأ بيروت الذي قضى فيه العديد من اللبنانيّين الحاملين الجنسيّة الفرنسيّة. حتى إنّ فرنسا لم تقدّم للتّحقيق اللبنانيّ صور الأقمار الصّناعيّة للمساعدة في كشف الحقيقة. وصولًا إلى صدمة الثّلاثاء الفائت وتخلّي فرنسا عن لبنان بزيارتها إلى تل أبيب وتقديم الدّعم الكامل لها.
لذلك، مخطئ من يتّكل على القوى الخارجيّة أي من الأطراف اللبنانيّة، جميعهم متغيّرون مع تغيّر الزّمن والمصالح، وليس هناك من وفاء او ثبات في ستاتيكو أبديّ. وربّما وصل اللبنانيّون إلى خبرة تقول إنّ الاتّكال الوحيد لقيام لبنان هو الشّراكة بين الأطراف تحت سقف المساواة والعدل والرّجوع الى منطق الدّولة والقانون، هذا النّموذج الذي، يوماً ما، سيرجع اليه اللبنانيون إن شاء الله.