لبنان

رياض سلامة يعترف بتمويل الفساد تحت حكم القانون

قَبِلَ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة التحدي الذي وضعه أمامه رئيس الحكومة حسان دياب. فالأخير كان قد طلب من سلامة الإعلان صراحة عمّا يحصل في مصرف لبنان، معتبراً أن هناك غموضاً مريباً في أداء الحاكم، خصوصاً بشأن سعر صرف الليرة، وهذا الغموض ساهم بتسريع تدهور سعر صرف الليرة، ما انعكس على كل شيء في البلاد.

تبرير بالأرقام
نفى سلامة وجود غموض في سياساته وقراراته واجراءاته، فلا معلومات مكتومة، بل يسلّم المصرف المركزي حساباته دورياً إلى الدولة اللبنانية وينشرها في الجريدة الرسمية. كما أن قرارات المجلس المركزي لمصرف لبنان، تُبلَّغ لمفوّض الحكومة الذي يبلغها بدوره إلى وزارة المالية. وأيضاً، فإن وزارتا المالية والاقتصاد ممثلتان في المجلس المركزي عبر المدير العام لكل وزارة.
أرقام كثيرة عرضها سلامة، تُبيّن من وجهة نظره حجم الدولارات التي تناقصت من الودائع في المصارف وحجم السيولة الموجودة في المركزي حالياً، إلى جانب المبالغ التي صرفت لتمويل استيراد الفيول والقمح والدواء، وتلك التي صرفتها الدولة على الفيول ومصاريف أخرى. بالإضافة إلى حجم الأموال التي أقرَضَها المركزي للمصارف التجارية. وهذا العرض، أراد به سلامة تبرئة ساحته من أي ارتكابات.

ولتدعيم موقفه، أكد سلامة أن ما صرفه المركزي لتمويل الدولة برغم عدم قدرتها على السداد، وفي ظل العجز المتواصل وعدم القيام بالاصلاحات، استند إلى قانون النقد والتسليف الذي يلزم المركزي بالدفع وطلب سندات مقابل التمويل. وهذا ما حصل على مدى سنوات. وأوضح سلامة أن المجلس المركزي لمصرف لبنان، أقر نظام مالي خاص بالمصرف، وهذا أمر طبيعي لأن المركزي لا يعمل كالبنوك التجارية. وبحسب النظام المالي، فلا يحق للحاكم التصرف سوى بمبلغ لا يتعدى 150 مليون ليرة، والتصرف بما يفوق هذا المبلغ، خاضع لقرار المجلس المركزي، ويُبلّغ لمفوّض الحكومة الذي يطلع بدوره وزير المالية على صرف المبلغ. والقول عكس ذلك، وفق سلامة، هو ايهام للرأي العام بأن الانفاق محصور بشخص الحاكم.

سلامة يدين نفسه
أراد الحاكم الدفاع عن نفسه، لكنه أدانها حين اعترف أنه مارس سياسات نقدية عن قناعة واخلاص. فالسياسيات النقدية أسهمت بشكل كبير في إيصال الاقتصاد والعملة إلى مرتبة متدنية، لأنها فصلت بين الاقتصاد والنقد، وهو ما يعكس أهداف السلطة السياسية وأدواتها النقدية، البعيدة كلياً عن أهداف ومصالح الناس التي تظهر عادة في الاقتصاد.

وبالنسبة إليه، استطاع المركزي الحفاظ على استقرار سعر الصرف، واستشهد الحاكم بثبات السعر في القطاع المصرفي. فيما قدَّم تواصله مع الصرافين لضبط سعر الصرف خارج المصارف، بصورة ايجابية تدعم سعيه للحفاظ على الليرة، فيما الحقيقة عكس ذلك تماماً. لأن سياسات سلامة النقدية كانت تنخر استقرار الليرة شيئاً فشيئاً، حتى بات من المستحيل إخفاء ما يدور خلف ستارة تثبيت سعر الصرف من أزمات. كما أن التواصل لمحاولة ضبط سعر صرف الدولار، هو اعتراف بأن السوق غير مستقر وأن الليرة بخطر. لكن من المسؤول عن هذا الوضع؟ لم يعترف الحاكم بمسؤوليته.

ولمزيد من التناقض، يقول سلامة بأن التطمينات حول العملة غابت بعد ثلاث صدمات تعرضت لها البلاد، وهي التخلّف عن دفع سندات اليوروبوند، وانتشار فيروس كورونا، وإقفال المصارف. هذه الصدمات ما زالت موجودة، فكيف يطمئننا الحاكم عن الليرة وأموال المودعين؟

ومع ذلك، ينبغي تذكير الحاكم بأن تراجع سعر صرف الليرة بدأ قبل تلك الصدمات. وباستثناء فيروس كورونا، فإن التخلّف عن دفع السندات وإقفال المصارف، هي نتائج للسياسات النقدية التي تكاملت مع السياسيات المالية وأسلوب ادارة البلاد ومواردها، وأدّت جميعها إلى ضرب الاستقرار الاقتصادي والنقدي.

دفاع عن المصارف
لا يخفي سلامة دفاعه المستمر عن القطاع المصرفي وليس عن الدولة وعملتها ومواطنيها. وفي ذروة الأزمة وتحميله مسؤوليتها، يؤكد سلامة أنه مَنَعَ افلاس المصارف. ويعيد السبب إلى عدم خسارة المودعين لأموالهم في حال الافلاس. واقع الحال يشير إلى عكس ما يضمره سلامة. إذ أن افلاس المصارف يعني فشل سياسيات سلامة وفشل المنظومة السياسية التي ربطت الاقتصاد بالقطاع الريعي وليس القطاع الانتاجي. فضلاً عن ان إعلان الإفلاس يعني تحميل أصحاب المصارف، من رجال أعمال وسياسيين، أعباء اضافية من جيبهم الخاص، فيما ابقاء المصارف بعيدة عن الافلاس، يعني تمكينها من ترتيب أمورها من أموال الناس.

ولم ينسَ سلامة إلقاء موقفه الشهير حيال الليرة، وهو تطمين الناس بأن الليرة بخير وكذلك الودائع، فالأموال موجودة في المصارف، وتُستَعمَل. نعم الأموال موجودة وتُستَعمَل، وهذا هو صلب المشكلة والدليل الاضافي على فشل السياسات النقدية. فمعيار الطمأنينة هو مدى قدرة المودعين على الوصول إلى أموالهم والتصرف بها، وليس وجودها في المصارف وتحكّم المصارف بها بغير وجه حق.

مسؤولية مشتركة
بات واضحاً بأن سلامة سقط في وحل سياساته النقدية ومشاركته في هدر المال العام لعقود. فلا يصحّ التذرّع بالقانون في حال العلم بأن المال المعطى للدولة سيتم اهداره. ولو كان سلامة صادقاً في حمايته للمال العام، لكان الأجدى به الاستقالة من منصبه وعدم السماح بهدر المال.

وللتأكيد على أن ما حصل طوال تلك السنوات لم يكن مجرد التزام بالقانون، وانما شراكة، يصر سلامة على عدم كشف بيانات تحويل أموال السياسيين وكبار موظفي الادارات العامة من المصارف إلى الخارج، منذ العام 2018 على الأقل. فكشف تلك البيانات تحمي سلامة إن كان بريئاً، وتكشف للرأي العام حجم الأموال التي يملكها المشتبه بهم بحصولهم على أموال غير مشروعة.

من ناحية أخرى، سلامة ورّط دياب مع أقطاب الطبقة السياسية، المؤيّدون قبل المعارضون. فبحسب سلامة، وزارة المالية كانت تُبلَّغ دورياً بحسابات المصرف المركزي، كما أن أهل السلطة أخذوا الأموال من مصرف لبنان لتمويل المشاريع. وفي هذه النقطة، حدّث ولا حرج عن ملفات الفساد المرتبطة بالمشاريع العامة، ولم يتردّد سلامة بالتصويب على كافة الحكومات السابقة حين قال إن مصرف لبنان موّل الدولة لكنه ليس مَن صرف الأموال مطالباً المؤسسات الدستورية في البلد بالكشف عن آلية وكيفية صرف تلك الأموال. فهل سيكمل دياب مسلسل تساؤلاته ويتّجه نحو السياسيين، مسترشداً بما يملكه التفتيش المركزي وغيره، من ملفات حول الفساد؟ هل يستطيع دياب سؤال وزراء الطاقة حول الأموال المهدورة في قطاع الكهرباء؟ أو يستطيع سؤال وزراء الأشغال العامة المتعاقبين، عن التلزيمات في البنى التحتية وفي المطار وغير ذلك؟ وماذا عن الجمارك؟

أيضاً، تسليط سلامة الضوء على دور الطبقة السياسية في تدهور الأوضاع، يحيل إلى ضرورة تحميل مجلس النواب مسؤولية تجاهل ما يحصل. فكل ما قاله سلامة استند إلى القانون، وهو مسؤولية مجلس النواب.

وزارات وإدارات عامة تنتظر دياب، فهل يقف عند مصرف لبنان ويشكّل بذلك درع حماية للطبقة السياسية، ويكون الرصاصة الموجهة إلى رأس سلامة فقط، وبالتالي يكون سلامة قد أحرج دياب وورّطه؟ أم أن دياب سيُكمل طريقه؟

المصدر: المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى