سعد الحريري “البارع” في ارتكاب الأخطاء والانهزام
مجدداً، ارتكب الرئيس سعد الحريري خطأً قاتلاً في السياسة. خطأ سيدفع ثمنه غالياً بين جمهوره وفي بيئته. وسيزيد من نقمة المنتفضين المستقلين.
يوم استقال ادعى أنه استجاب لمطالب الناس. حاول استغلال غضبهم ونزولهم إلى الشوارع لتعزيز “شروطه”. لكنه – كالعادة – لم يصمد. فعاد ووافق على دعم سمير الخطيب لإنتاج حكومة لا تلبي أياً من مطالب الناس. بل جرت في الأثناء محاولات أكثر لشرذمة اللبنانيين طائفياً ومذهبياً. وحتى في هذا المسار يخسر الحريري. فهو أسير كل الحالات. إذا رفض دعم الخطيب، سيُتهم بأنه يطيع إرادة خارجية تريد تطويق العهد وحزب الله. وإذا وافق على الخطيب فهو بنظر الكثيرين يطيع حزب الله وميشال عون وجبران باسيل.
عندما وقف الحريري في بيت الوسط لإعلان دعمه ترشيح ميشال عون لرئاسة الجمهورية، رفع حينها ثلاثة عناوين حتّمت عليه اتخاذ هذا الخيار. وهي: حماية اتفاق الطائف، حماية مؤسسات الدولة، وإنقاذ الوضع الاقتصادي. برر الحريري تنازلاته القاتلة بهذه الشعارات التي رفعها، وهو يغلفها بنبرة عاطفية وكلام معسول لا أثر لهما في السياسة. وهو على الدوام لا يملّ من تكرار جملة “كل ما أقوم به يهدف إلى حماية البلد”.
ثلاث سنوات مرّت على التسوية الرئاسية، فيما الاقتصاد ينهار، والمؤسسات معطّلة ومشلولة، بسبب الدسائس السياسية ومنطق التحاصص وأخلاق الفساد، بينما الطائف أصبح من الماضي، بفعل غض نظر الحريري عن ممارسات رئيس الجمهورية ورئيس التيار الوطني الحرّ، اللذين لا يتركان فرصة إلا ويؤكدان فيها على ضرب الطائف لإستعادة الصلاحيات الرئاسية القديمة.
سر الحريري وباسيل
إذاً، عناوين الحريري التي شجّعته على التسوية لم ولن تتحقق. لكنه على ما يبدو لا يزال مصرّاً على التمسك بها، بمعزل عن كل الخلافات مع عون وباسيل. فحتى بمشاركته في بدعة “المشاورات” لتشكيل الحكومة، وتعيين رئيسها وشكلها وتوزيع حقائبها قبل إجراء الاستشارات وقبل التكليف، يمثّل شراكة عملية للحريري في القضاء على الطائف، مانحاً صلاحيات رئيس الحكومة والحكومة مجتمعة، لرئيس الجمهورية، الذي بات يترأس المجالس والاجتماعات واحداً تلو الآخر، تارة اقتصادية ومالية، وطوراً أمنية وعسكرية.
ثمة سر ما زال خفياً وأشبه باللغز يربط الحريري بجبران باسيل. ففي خضم المواجهات الإعلامية بين التيارين، استمرت اللقاءات والاتصالات بين الرجلين. وهناك من يصرّ على تمسكهما ببعضهما البعض، وفوق كل الخلافات. هذه العلاقة هي التي سمحت لباسيل أن يختاربنفسه رئيس الحكومة المفترض، ويفرض شروطه. فعلى الرغم من استبعاده منها سيبقى الأكثر تأثيراً عليها. ولا يزال يعتقد أنها ستكون حكومة تؤمن له مستقبله السياسي وتضمنه!
من ناحيته، الحريري الذي كان يفرض الشروط لترؤس الحكومة أو يرفض المشاركة بأي حكومة لا تكون تكنوقراطية، وتعمل على إقرار قانون إنتخابي جديد، وتأتي وفق استشارات نيابية ملزمة… بقي يفاوض مع الثنائي الشيعي، والتيار الوطني الحرّ والخطيب على شكل الحكومة التكنوسياسية، وأعلن عن دعمه للخطيب. هذا بحدّ ذاته استمرار من قبل الحريري لتجاوز الدستور. ولكن ما الذي دفع الحريري إلى التراجع عن شروطه وإعلان موافقته؟ لا جواب واضحاً، باستثناء بعض الإشارات التي تقول أن ثمة من أوحى له أنه سيتحمل مسؤولية أي انهيار يحدث في لبنان. وهو رئيس حكومة تصريف الأعمال، ولن يُسمح له بالمغادرة أو التهرب. لذلك فضّل الموافقة على أن تنفجر الأوضاع بوجهه.
بيان الرؤساء السابقين
بعد موافقة الحريري، إطمأن باسيل والثنائي الشيعي إلى نجاح المهمة، ليستفيقوا الأربعاء على متغيرات فرضها موقف رؤساء الحكومة السابقين، برفضهم تجاوز الدستور. الموقف مثّل إحراجاً للحريري الذي اضطر إلى كبح اندفاعته. إذ كان رئيس الجمهورية والثنائي الشيعي ينتظرون من الحريري بيان دعم علني للخطيب، لتحديد موعد الاستشارات النيابية. لكن الأخير انزعج من بيان رؤساء الحكومة السابقين. وعندما التقى الخطيب، توجه إليه بالقول إنه لا يمكن إعلان دعمه قبل تحديد موعد الاستشارات، لأنه سيتعرض إلى انتقادات كثيرة لتجاوزه الطائف. خصوصاً في ظل الموقف الصارم للرؤساء السابقين. مع ذلك، لم يتراجع عن تأييده ودعمه للخطيب، الذي غادر للقاء باسيل وإبلاغه بمضمون ما اجتماعه مع الحريري. وعلى الاثر، تحرّك باسيل نحو قصر بعبدا لتحديد موعد الاستشارات.
ردّ فعل الشارع له وقعه وتأثيره، خصوصاً أن الاحتجاجات تجددت في كل لبنان رفضاً لـ”صفقة” ترئيس الخطيب، وإعادة إنتاج ما يشبه الحكومة السابقة. فهل يمكن للحريري أن يستمّر على موقفه الداعم للخطيب؟ أم أنه سيتراجع؟ خصوصاً أنه وحتى لو أعلن موقفه الرسمي بتأييد الخطيب، والمشاركة في الحكومة بعد إجراء الاستشارات، سيكون فعله بمثابة نوع من التمثيل والتحايل على الطائف، باعتبار أن “الطبخة” كانت قد أنضجت قبل الاستشارات. ومن أنضجها هو باسيل ورئيس الجمهورية. وبالتالي، يكون الحريري قد رضخ إلى منطق ضرب الطائف والدستور، وأراد فقط الحفاظ على ماء وجهه.
رئيس الجمهورية والثنائي الشيعي أصروا على سمير الخطيب، واستمروا بالحديث عن إيجابيات، وأن التكليف سيتم وسيكون هناك تشكيل سريع للحكومة. بينما رؤساء الحكومة السابقين رفضوا الانصياع إلى منطق الإملاء وتجاوز الدستور.
الورطة تراجعاً أو إقداماً
أما الحريري فما عاد بوسعه الخروج عن الالتزام الذي قدمه للثنائي الشيعي بدعم الخطيب وتسميته والمشاركة في حكومته ومنح الثقة. هنا أوقع الحريري نفسه في “ورطة”. ويله التراجع فيُتهم أنه أسير رؤساء الحكومة السابقين ولم يلتزم بالاتفاق. وويله الإقدام على هذا الخيار فيكون التزم بما رسمه جبران باسيل، وسار بتكليف رئيس للحكومة، ضرب تكليفه اتفاق الطائف وموقع رئاسة الحكومة، ومرفوض أصلاً من قبل الشارع المنتفض ومن الشارع السنّي.
تحديد موعد الاستشارت، يهدف إلى إحراج الحريري واللحاق به إلى حيث يكون. فإذا سمّت كتلة المستقبل سميرالخطيب، فستوقع شرخاً هائلاً في الطائفة السنية، وقد تنكسر العلاقة مع رؤساء الحكومة السابقين، ما سيفتح الأمور على احتمالات كثيرة. وإذا تراجع الحريري عن دعم الخطيب وتسميته، فسيلجأ حزب الله ورئيس الجمهورية إلى تسمية الشخصية التي يرونها مناسبة لتشكيل الحكومة. وهذه أيضاً ستؤدي إلى شرخ داخل الطائفة السنية، وشرخ مذهبي وطائفي وتسييس للمعركة أكثر.. وبما يتعارض دوماً مع مطالب الشارع والمتظاهرين.
المصدر : منير الربيع – المدن