بعد 50 يومًا من الصمت… خامنئي يعود برسالةٍ بلا مخرج!

نظام مير محمدي
كاتب حقوقي وخبير في الشأن الإيراني
رسائل خامنئي بعد خمسين يومًا من الغياب: استعراض قوّةٍ بجيبٍ فارغ… وتأكيدٌ على طريقٍ بلا مخرج!
عاد علي خامنئي إلى الواجهة بعد خمسين يومًا من الصمت، فاختار خطابًا عالي النبرة حمَلَ مزيجًا من التحدّي والإنكار. قال إنّ الولايات المتحدة وإسرائيل “تلقّتا صفعةً في حربٍ استمرّت 12 يومًا” إلى حدّ “لم تكونا تتوقّعانه”، وإنّ “ترامب زار فلسطين المحتلة لرفع معنوياتهم”. ثمّ تابع مهاجمًا: “يفتخر ترامب بأنّه قصف الصناعة النووية الإيرانية ودمّرها؛ فليحلم!” قبل أن يُدين “تدخّل” واشنطن في الملف النووي: “ما شأن أمريكا إذا امتلكت إيران قدراتٍ نووية أو لم تمتلك؟” وختم على إيقاع السلاح: “الصاروخ الإيراني من صنع الشاب الإيراني وهو هويّته، والقوّات المسلّحة ستستخدم هذه الصواريخ مرّة أخرى إذا لزم.”
تثبيت خطوط “لا تراجع”
جوهريًا، لم يقدّم الرجل جديدًا في السياسة؛ أعاد تثبيت ثلاثية النووي والنيابيّة والصواريخ بوصفها أعمدة استراتيجية نظام وليّ الفقيه، مع إشارةٍ ضمنية إلى أنّ أيّ اتّجاه نحو مفاوضاتٍ تُقيّد هذه الأعمدة ليس مطروحًا لديه. غير أنّ خلف الضجيج، بدا الخطاب محاولة لتغطية عجزٍ مادّي وسياسي : “جيبٌ فارغ” اقتصاديًا، “ظهرٌ مكسور” بفعل العزلة والعقوبات، وبيئة إقليمية لم تعد تقبل بأدوات التعطيل القديمة.
لمن وُجِّه الخطاب؟
أوّلًا، إلى كوادر النظام المنهكة. فالسلطة تواجه منذ شهور نزفًا صامتًا في المعنويات، تفاقمه ضربات وحدات الانتفاضة إلى رموز القمع ومؤسّساته، وتُغذّيه انعكاسات مسار سلام غزة على “العمق الاستراتيجي” الذي راهن عليه النظام طويلًا. احتاج خامنئي إلى جرعة “طمأنة قسرية”: السلطة “صامدة”، وهياكلها “متماسكة”، والقائد “حاضر”.
ثانيًا، إلى ما تبقّى من الوكلاء الإقليميين. الرسالة: لا تتركوا الساحة ولا “تنهاروا”، فالمشهد قابل للانقلاب، والهدنات هشّة، وقضايا مثل نزع السلاح وحوكمة غزة قابلة للتفجير. يراهن النظام—وفق خياله السياسي—على أن تسوياتٍ ناقصة قد تُعاد إلى مربّع الصراع؛ لذلك يلوّح بتواصل “القدرة” رغم تراجع الموارد.
ثالثًا، إلى أجنحة السلطة المتخاصمة حول خيارات التراجع أو الانخراط. أراد خامنئي قفل الباب أمام أيّ “مراجعة مؤلمة”: لا تفاوض على الجوهر، لا تخفيضًا لبرنامج الصواريخ، لا قطعًا مع الشبكات النيابيّة. بهذا، أرسل إشارةً حاسمة بإنهاء السجال الداخلي وفرض “إجماعٍ قسري” على استمرار النهج.
قوّة شكلية… وضعفٌ بنيوي
لكن بين نبرة التحدّي وحال الواقع فجوةٌ يصعب ردمها. فالخطاب، رغم زخمه، بدا دفاعيًا في عمقه؛ إذ إنّ إعادة تدوير عبارات “الهيبة” لا تُغيّر من حقيقة أنّ النظام خسر معظم أوراق الضغط: زخمه الإقليمي يتراجع، البيئة الدولية تضيق عليه، والاقتصاد يرزح تحت تضخّمٍ وانكماشٍ واستنزاف. وعلى الأرض، تستمرّ السلطة في سياسة الترهيب الداخلي عبر الإعدامات المتواترة داخل السجون لبثّ الخوف ومنع التفكير في انتفاضةٍ جديدة؛ غير أنّ هذه “القسوة اليومية” لا تصنع شرعية، بل تعمّق القطيعة مع المجتمع وتفاقم احتمالات الانفجار.
ما بعد الرسالة: طريقٌ إلى أين؟
من زاوية التحليل، يُفهم خطاب خامنئي كوثيقة تثبيت مسارٍ بلا مخرج: مزيدٌ من التشدد مقابل مزيدٍ من العزلة. لقد اختار إنكار التحوّلات التي أحدثها مسار غزة—سواءً اكتملت تسوياته أم تعثّرت—والتعامي عن تآكل نفوذه الإقليمي وانكشافه الاقتصادي. هذا الإنكار، بما يحمله من تسليحٍ للخطاب ورفضٍ للمراجعة، يضع النظام أمام معادلةٍ صفرية: إمّا القفز إلى تصعيدٍ غير محسوب النتائج، أو البقاء في حلقة استنزافٍ تسرّع تآكل القوّة الصلبة من داخلها.
في المقابل، تُراكم المقاومة الشعبية المنظّمة داخل إيران خبرتها وعتادها الرمزي. وقد أظهرت وحدات الانتفاضة في المدن المختلفة أنّها قادرة على تثقيب جدار الخوف وإبقاء القضيّة حيّة في الشارع. ومع كلّ خطبةٍ تَعد بالمزيد من القبضة الحديدية، تتّسع دائرة من يرون أنّ الإصلاح من داخل المعادلة الراهنة مستحيل، وأنّ التغيير لن يكون إلا عبر ضغطٍ مجتمعي متراكم ومنظّم.
ما الذي أراد قوله… وما الذي فهمه الداخل والخارج؟
أراد خامنئي القول إنّ “القوّة” باقية وأنّ “التهديد” مجدٍ. لكن الرسالة المقروءة—في طهران كما في العواصم—أنّ النظام عاجزٌ عن إعادة صياغة المشهد: فلا هو قادرٌ على فرض شروطه خارجًا، ولا هو مستعدٌّ لثمن المراجعة. وفي السياسة، يُعدّ هذا الموقع أخطر المواقع: استمرارٌ مكلف بلا أفق، يَستدعي مزيدًا من القمع في الداخل ويُنتج مزيدًا من الخسائر في الخارج.
خمسون يومًا من الغياب لم تُثمر مراجعةً أو مبادرة، بل استعراضًا يُخفي هشاشةً تراكمت. أعاد خامنئي تأكيد ثلاثيّته (النووي–النيابي–الصاروخي) بوصفها “هوية”، لكنّه كشف في الآن نفسه حدود القدرة في عالمٍ تغيّر. ومع تصاعد الإعدامات واحتجاجات السجناء واتّساع نشاط وحدات الانتفاضة، تتّضح معالم طريقٍ أحادي الاتجاه: كلّ تشدّدٍ إضافي يدفع النظام خطوةً أقرب إلى حافّة الانفجار الداخلي. وهنا بالذات، تفقد “الرسائل” أثرها، وتبدأ حقائق الميدان كتابة السطر الفاصل بين سلطةٍ تستنزف نفسها ومجتمعٍ يراكم عناصر انتفاضةٍ منظّمة وشاملة.