بنوك خارج الخدمة… ما بين “الداتا” والدولار
كتبت سمر قزي في نداء الوطن:
ليس مستغرباً أن يتم إنقاذ بلد عانى من انهيار كامل في نظامه المصرفي عبر استخدام اقتصاد نقدي بديل. لكن السرعة التي ظهرت بها فروع شركات التحويلات النقدية لم يسبق لها مثيل. هذا هو الاقتصاد «غير المصرفي» الثري الذي ظهر أخيراً. تناولت في التحقيق الأخير شركات التحويلات المالية الخارجية التي تعتمد بشكل أساسي على الدولارات المحوّلة من الخارج، فيما سيركّز هذا التحقيق على الشركات المالية الداخلية التي تتولى أمور المدفوعات لمصلحة الحكومة وبين الافراد peer-to-peer، في ظل وجود مصارف «زومبي» zombie banks وحسابات مصرفية مجمّدة. يُدرج الموقع الاكتروني للمصرف المركزي حالياً ست شركات تتعامل مع التحويلات المالية الداخلية/الخارجية. من بين هذه الشركات توجد الشركات المشتبه بها المعتادة المهيمنة على السوق BOB Finance وOMT، إلى جانب Whish Money SAL وPinpay SAL وCash united وTransfer international. رغم أن معظم هذه الشركات تستطيع القيام بتحويلات داخلية وخارجية، فقد اختار بعضها التركيز على السوق الداخلي بدلاً من السوق الخارجي. Whish SAL، على سبيل المثال، هي إحدى تلك الشركات.
شركة Whish
سبق للمؤسسين الرئيسيين لشركة Whish أن عملوا تحت اسم شركة Talaco التي تمّ تأسيسها عام 2004. كانت هذه الشركة حينها وكيلاً متخصّصاً في بطاقات الهاتف القابلة لإعادة التعبئة وأجهزة الاتصالات. كما حازت على وكالة لتوزيع الخطوط المسبقة الدفع وبطاقات إعادة التعبئة من شركة Touch. مالكو تالاكو هم السادة: توفيق عدنان كوسا (مواطن سوري، حصل على الجنسية اللبنانية في عهد رئيس الجمهورية السابق إميل لحود)، سامر أفدار (مواطن سوري) الذي يمتلك شركة مماثلة في سوريا، طلال المقدسي وأمل أبو زيد. في العام 2008، انسحب أبو زيد من الشركة وباع حصته إلى كوسا. مع اندثار تجارة بطاقات الهاتف القابلة لإعادة التعبئة، يبدو أن شركة Talaco قد إنطلقت من جديد تحت اسم شركة Woo Cash. بدّلت Talaco في عام 2018 علامتها التجارية إلى Whish وأطلقت شركة لتحويل الأموال باسم Whish Money تحت اسم WOO Cash sal… في عام 2021، غيرت Woo Cash اسمها إلى Whish money SAL.
مالكو الشركة
من غير الواضح إن كان المقدسي لا يزال مساهماً في الشركة. فيما أفدار، المعروف أيضاً باسم محمد سامر أفدار، جنى أموالاً في سوريا بما أنه كان أول من امتلك وكالة «ويسترن يونيون»، كما كان شريكاً مؤسساً لشركة «تواصل للاتصالات» في سوريا. يُعرف عن أفدار بأنه الواجهة الاقتصادية لرامي مخلوف، وتتهمه المعارضة في سوريا بأنه استخدم نفوذه للوصول إلى «الداتا» Database التي تمتلكها شركته وقد تضمنت أسماء وعناوين ممولي المعارضة في الداخل والخارج وسلمها الى النظام السوري. أما المساهم الرئيسي توفيق كوسا فهو خرّيج الجامعة الأميركية في بيروت وإلى جانبه في مجلس الإدارة السيد شهوان معوض المدير المالي السابق لشركة OMT.
شركة تحقق تقدماً
يبدو أن شركة Whish حققت تقدماً في سوق التحويلات الداخلية. ففي غياب إنتظام عمل المصارف، تواجه بعض الشركات مشكلة دفع الرواتب لموظفيها. في حين يشتكي هؤلاء من اضطرارهم إلى الانتظار ساعات في المصارف لقبض رواتبهم. لذا عرضت Whish على بعض الشركات خدمة دفع الرواتب مجاناً تحت شعار «ادفع رواتب موظفيك من خلال Whish من دون إجراء تحويل داخلي». بالتالي، يتم تسليم الشركات لقائمة بيانات بأسماء الموظفين لديها وأرقام هواتفهم الى Whish وبناءً على طلب من صاحب العمل تدفع هذه الشركة الرواتب إلى هؤلاء الموظفين في نهاية كل شهر.
الى جانب تكريس Whish دوراً رئيساً لها في سوق التحويلات الداخلية وحلولها مكان المصارف، عمدت أيضاً على خرق سوق تمويل المنظمات غير الحكومية NGOs. إذ فرضت هذه المنظمات التي تمول مشاريع مختلفة في القطاع الخاص في لبنان قواعد على المتعاقدين معها، مثل جعل المقاول يدفع الأجر اليومي للعمال السوريين واللبنانيين عبر Whish.
خرق الوزارات
في الخلاصة، يبدو أنه يتم من خلال ذلك جمع كمية هائلة من «الداتا» عن هؤلاء العمال حالياً. من غير الواضح في الوقت الحالي من يطلع على هذه «الداتا» ومن يضمن أن هذه البيانات لن تقع في الأيدي الخطأ، فليس لدى لبنان حالياً قانون لحماية قاعدة البيانات Data Privacy Act. كذلك، عمدت Whish الى تجنيد معظم موظفي مؤسسات الدولة والوزارات عبر دفع رشاوى مالية لهم من اجل الطلب من المواطنين اللجوء الى تسديد الفواتير والرسوم عبر مراكز الشركة. على سبيل المثال، إذا ذهبت الى وزارة المال لتسدّد اي رسم لمصلحة الدولة، يتحجّج الموظف بعدم توفّر الكهرباء او آلة الطباعة أو الحبر أو الاوراق ليطلب منك تسديد الاموال لدى Whish. هذا الامر لفت انظار محامين كثر بحيث يقلقهم حجم خرق Whish لوزارات الدولة وسيطرتها على «داتا» المواطنين دون حسيب او رقيب. توجد في التكنولوجيا مقولة شهيرة «إن كنت لا تدفع ثمن المُنتَج فأنت هو المُنتَج!» ويبدو أن Whish في الوقت الحالي تعمل مجاناً. فهي تستطيع تحويل أموالك إلى أي مكان في لبنان من دون تكاليف. من أجل الاستمرار في نموذج العمل هذا، يجب أن تمتلك الشركة أموالاً كثيرة. وفي حال لم يدفع المستهلكون ثمن المنتج الذي يستخدمونه، فمن المحتمل جداً أن يكونوا هم المنتج أي بعبارة أخرى يتم استخدام بياناتهم في مكان آخر.
التوسع مناطقياً
يبدو أن Whish تتوغل أكثر فأكثر في قضاء المتن بافتتاحها 60 مركزاً مقابل 36 مركزاً في قضاء كسروان، 21 مركزاً في قضاء النبطية، 21 مركزاً في طرابلس و38 مركزاً في بيروت. يقع أحد أكبر فروعها حتى الآن على أوتوستراد الزلقا. هل هذه صدفة؟ هل قضاء المتن أكثر استقطاباً للأعمال مما هي عليه بيروت هذه الأيام؟
تجميع «داتا»
من البديهي أن تسعى أي شركة الى التوسّع وزيادة عدد الزبائن وتحقيق النجاحات. لكن في ظل وجود اقتصاد «غير مصرفي» بالكامل، من واجب القطاع الخاص طرح أسئلة حول: من يقف خلف هذه الشركة؟ لماذا يسدّد المساهمون كلفة هذه الخدمات المجانية؟ كيف تتم حماية «الداتا»؟ مع الاشارة، الى انه لا شيء يمنع في لبنان بيع هذه «الداتا»، فإن كانت هكذا خطوة شرعية إلا أنها غير أخلاقية لأنها تستبيح خصوصيات المواطنين.
يمكن جمع الكثير من البيانات في هذه الأيام من خلال معرفة مكان عمل الشخص والمبلغ الذي يكسبه وأرقام هواتفه ومكان إقامته (يتم تسجيل هذه المعلومات بشكل عام عند دفع الفواتير). فإن كان يمكن استخدام هذه البيانات في الأيام العادية للتسويق، إلا انه قد يعتمد عليها في الأيام الخطرة للوصول إلى أصوات معارضة كما حدث في سوريا، والسيد أفدار ليس غريباً عن ذلك.
إن كان المصرف المركزي هو الذي ينظم شركات تحويل الأموال، فهل تلتزم هذه الشركات بنفس قواعد الحوكمة التي اتبعتها المصارف؟! هل نبالغ إن طلبنا من شركات تحويل الأموال الداخلية التي تعمل كالمصارف أن تذكر أين وكيف يتم تخزين بياناتها ومن الذي يشتري هذه البيانات؟! مجدّداً، إن كنت لا تدفع ثمن المُنتَج فأنت هو المُنتَج.
القائمة الرمادية
من المقرر أن تُصدر مجموعة العمل المالي The Financial Act Task Force تقريراً عن حالة الاقتصاد اللبناني في الربع الثاني من العام 2023. كما من المحتمل أن يتم خفض تصنيف لبنان إلى القائمة الرمادية في هذا التقرير (High-risk jurisdictions) بسبب ارتفاع نسبة الاقتصاد النقدي الغامض.
شركات النقد غارقة عبر مساهميها في مخططات الفساد ذات العلاقات الغامضة بالكيانات والمنظمات والاشخاص الخاضعين لعقوبات دولية، الامر الذي سيسرّع قرار إدراج لبنان على القائمة الرمادية. إن تم ذلك، فسيؤدي الى عزله أكثر من أي وقت مضى. فهذا التصنيف يعني ان لبنان يعاني من نقص استراتيجي كبير من قبل السلطة الحاكمة لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وانتشار السلاح.
في النهاية، لا يمكن الاستمرار في إدارة اقتصاد كامل وفق نظام يستند إلى النقد وهناك حاجة ملحّة إلى الاسراع بالإصلاحات المصرفية. لكن من سيلبّي ذلك طالما أن المعنيين بإجراء هذه الاصلاحات هم المستفيدون من غيابها؟!
(*) خبيرة اسواق مالية