لبنان

إلى وطني حبيبي لبنان. (بقلم عمر سعيد)

هل تذكر يوم كان ثلجك يعدني بموسم مثير من التزلج الضيعوي, والبقسما، والعطل عن الدراسة؟!
هل تذكر يوم كان زهرك يعدني بربيع مليء بالركض خلف الفَراش، وعلى حواف السواقي والجداول، وبشميلات من الهندباء، والفترية، والمشة؟!
هل تذكر يوم كان حرك يعدني بصيفية حيوية في حاووز الماء في الحاكورة، ومشويات الحمص الأخضر، والفريكة، وسلال العنب والتين؟!
أحيانا أقول لا أعلم أينا الذي كبر أكثر، أأنت أم أنا؟!
وكلي ثقة أني لو سألتك: من تراه الذي كبر أكثر، ستتجاهل سؤالي.
لكني أجزم أنه أنت الذي قد بلغ من العمر عتيا!
لأني لا زلت أنتظر كل تلك المواسم، وقد كنت أنت الذي يأتيني بها.
لكنك كبرت، وبات سهلًا خداعك، وبت تأتي إلينا خاليًا إلا من الحاجة.
أذكر أن أبي كان يقول: ” عملت إجيرًا ب ليرتين ونصف في الأسبوع، ولكن كانت تلك الليرتان والنصف تؤمن للبيت مؤنة الصيفية بكاملها”
ويروح يعدد الأصناف والأسعار.
أي نعم إنها كانت أصنافًا محدودة، لكنها كانت تكفيهم شر الطوابير التي احتلتك.
اليوم بِتتَ عاجزًا عن تقديم ربع تلك الأساسيات.
وصارت ميزانية السنة كاملة، لا تكفي لتأمين مؤونة بيت لشهرين.
أفترى من الذي قد كبر منا؟!

عرفت قريتي رجلاً وحيدًا، كان له بيت، وله دار كناية عن بستان غني بالأشجار المثمرة.
كبر الرجل، وعجّز، وصار لا يغادر غرفته أو بيته، ولكنه ظل ينام قرب الشباك المطل على بستانه، ويردد من وقت لآخر طوال الليل:
– شايفك.. إيدك.. لا تجبرني قوص عليك!
عندما شاخ العجوز، صارت داره مكب نفايات، وملعبًا لأطفال الحارة، وموقفًا لجرار القرية، ومسرحًا لأغنام وماعز وحمير الجيران، ودار خلاء للمضطرين تحت جنح الظلام.
عندما مات العجوز، نشب خلاف حاد بين أقربائه على التركة، جعلت البيت يباع عدة بيعات، ولأكثر من شارٍ، ونتيجة للصراع الذي نشأ بين الشارين والورثة، وُضِعَ البيت تحت يد القضاء، ولا زال وإلى اليوم مفتوحًا على استخداماته المقرفة، وأزمات الورثة والسماسرة والشارين.

فهلا تعترف لي بأنك انت من كبرت، وليس أنا !

لأن وطني لا زال في ذاكرتي، ولا زلت أنا الطفل الذي يرسمه على جدران مخيلته، على الرغم من كل تلك الصفعات والصيحات التحذيرية.
إلى درجة أني حلمت قبل أيام أن أبي يوبخني على وشمك فوق ساعدي.
تخيل يا وطني، ما عدنا نملك فيك شيئًا، فهل تتوقع أننا سنحتمل شراء أي شيء ما عاد متوفرًا فيك؟!
جفت شرانق الفراش، وفسدت بيوض الطيور، وتسوست جذوع الأشجار، وما عاد للثلج مكانا في قممك أو سفوحك، وغدا ماؤك قاتلًا لساكنيه، وأتت الفئران على ما في سهولك من بذور.
حتى الدواء يا وطني حتى الدواء، ما عاد يتوفر لآلامنا.
وحده الطابور ينجز مواسمه، ويولدها في كل ناحية، ولأي شيء، ذلك لأن أكثر الأشياء ما عادت فيك.
أظننا قد شخنا معا يا وطني، فلا أنا قادر على التصويت والتهديد من خلف النافذة، ولا عاد سورك يمنع من حولك من تحويلك إلى ما حل ببستان ذلك العجوز، لا بل إن سورك بات يخجل من أسوار العنكبوت.
فهل أنت يائس؟!
أما عني، فإن سألتني؟!
فنعم.
وببساطة، ذلك لأني شخت ولا زلت أكذب على نفسي، وعليك، وأعدنا بما لم نعد ننتظر.
عمر سعيد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى