محور إيران والقاعدة.. رؤية أميركية مغايرة لمكافحة الإرهاب
بعد إنهاء رمزية الحرس الثوري الإيراني باغتيال قاسم سليماني وتنفيذ عمليات اغتيال نوعية ضد شخصيات مهمة في عمق إيران، وكان آخرهم محسن فخري زاده، يظل هناك ملفان يمثلان موضع خلاف بشأن أسلوب التعاطي مع طهران في الداخل الأميركي بين الديمقراطيين والجمهوريين أو بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين، وهما علاقة تلك الدولة بالإرهاب وملفها النووي.
لم يعد الملف النووي عامل ترجيح لوجهة نظر الجمهوريين وإدارة الرئيس دونالد ترامب، مع طرح الرئيس المنتخب جو بايدن الذي سيدخل البيت الأبيض بعد أيام تصوره الخاص بهذا الشأن وعزمه العودة للاتفاق النووي مع بعض التعديلات، كوسيلة أكثر واقعية لمنع إيران من امتلاك القنبلة النووية، لأن الانسحاب أدى إلى عزل واشنطن عن حلفائها وفتح طريق طهران للمزيد من التخصيب.
ومن شأن طرح بايدن لرؤيته المشروطة التي يصفها بـ”المتوازنة”، إقناع الأميركيين والقوى الحليفة المتضررة من ممارسات طهران العدوانية بالمنطقة، فنظرته التي تتعلق بالحوار وعدم القطيعة متوازية مع العمل على احتواء خطرها وإلزامها بالاعتدال والرد على أي أنشطة لزعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط ودول الجوار.
ويُرسي بايدن المنهج الذي يجعل إدارته متوافقة مع مجمل المواقف الأوروبية والذي يخالف إجراءات ترامب الأحادية والموصوفة من قبل بعض المسؤولين الأوروبيين ومسؤولي إدارة بايدن بـ”الهدامة”، ما يعني السير باتجاه توافق أوروبي – أميركي تحت إدارته على طريقة ذكية وواقعية لمواجهة خطر ملف إيران النووي.
وفي ظل حرص الجمهوريين على وقف نزيف خسائرهم السياسية لصالح الديمقراطيين ومحاولتهم إنقاذ مستقبل ترامب السياسي بعد أحداث اقتحام مناصريه للكونغرس، سلطت إدارة ترامب الضوء على الملف المتعلق بنشاطات طهران الخطيرة وتحالفها السري مع تنظيم القاعدة.
وأرادت إدارة ترامب في هذا التوقيت وضع العصي في العجلات وإجبار الجميع في الداخل الأميركي وفي الأوساط الأوروبية على اعتناق رؤيتها بشأن إيران وعدم إعطاء الفرصة للديمقراطيين لإعادة التعامل مع إيران والانضمام إلى اتفاق دولي بشأن برنامجها النووي.
توثيق جديد
توثيق وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو للمعلومات المتداولة منذ سنوات بشأن علاقة إيران بالقاعدة وتقديم أدلة استخباراتية على تقديمها الملاذ الآمن والدعم والتدريب لمقاتلي التنظيم، هو رسالة مباشرة للأميركيين، مفادها أن الإدارة الديمقراطية الجديدة عازمة على تبني مقاربة مرنة مع النظام الذي ساعد القاعدة في تنفيذ هجمات 11 سبتمبر 2001.
وربط النظام الإيراني بأسوأ هجوم إرهابي على الإطلاق في تاريخ الولايات المتحدة، وتنظيم شديد التطرف وهو الذي أفرز فروعا في جميع أنحاء العالم بما في ذلك تنظيم داعش، هدفه تعقيد مهمة بايدن في سياق أكثر ملفات السياسة الخارجية سخونة عبر تكريس ممانعة شعبية رافضة لتوجهات الديمقراطيين الخاصة بالعودة للحوار مع إيران واستئناف الاتفاق النووي.
ويتضح مقصد استنفار الأميركيين من طبيعة العبارات التي استخدمها بومبيو، إذ تشي بمستوى تحالف متين عندما تحدث عن محور إيران – القاعدة، الذي يشكل تهديدا جسيما لأمن الدول والولايات المتحدة، وعندما تطرق إلى وصف مستويات الدعم والتحالف، فإيران بالنسبة إلى التنظيم ليست أفغانستان التي يختبئ بين جبالها، إنما توفر له طهران غطاء حماية صلبا يتيح لعناصره وقياداته التواصل بحرية وأداء المهام الصادرة من القيادة المركزية بأفغانستان وباكستان بما فيها التفويض بشن هجمات والدعاية وجمع الأموال.
وحرصت إدارة ترامب قبل مغادرتها البيت الأبيض على تفكيك التوافق المرتقب بين الإدارة الديمقراطية والأوروبيين بشأن الملف الإيراني، بالنظر إلى مسايرة بعض دول أوروبا لطهران وإنقاذها لفترة طويلة بدوافع مشابهة لما تطرحه إدارة بايدن بالحديث عن المصلحة والتعاطي بطرق أكثر حكمة وكياسة.
ويجعل تقديم أدلة جديدة على وجود تحالف سري يجمع بين القاعدة وطهران، الكياسة والحكمة من نصيب إدارة ترامب التي قاست الخطر من جميع جوانبه وأبعاده، بالمقارنة بمواقف الأوروبيين الخجولة التي عززت عبر مخالفتها نهج ترامب في التعامل مع إيران من قدرة نظام استبدادي طائفي يدعم الإرهاب العالمي ويهدد السلام الدولي على المناورة والمراوغة.
ويحرج توقيت تقديم إثباتات على علاقات فوق العادة بين القاعدة وإيران حكومات أوروبية في ظل توفر بيئة مواتية لإحياء النشاط الإرهابي في العمق الغربي، بالنظر إلى السياق العالمي الذي تغلب عليه النزعات اليمينية والشعبوية، علاوة على تصاعد حضور تيارات الإسلاموفوبيا وتوجه دول مثل ألمانيا وفرنسا والنمسا وبريطانيا للتخلي عن تصورها المتسامح مع أنشطة فصائل الإسلام السياسي، ورفض التفريق بين ما يسمى الإرهاب الناعم والعنيف.
ابتزاز ومساومة
مأزق جماعة الإخوان وتنظيمها الدولي داخل مراكز نفوذها التقليدية بالعديد من الدول الأوروبية، يجعلها أكثر انفتاحا على تشجيع الفصائل الأكثر عنفا وتطرفا خاصة القريبة منها كالقاعدة لتنفيذ عمليات داخل بعض دول أوروبا لتخفيف الضغط عليها ولاستخدام ورقة الإرهاب بغرض الابتزاز والمساومة.
ولا توجد وسيلة أكثر نجاعة لدفع دول أوروبا لتغيير سياستها بشأن الملف الإيراني لتكون أقرب لنهج الحزب الجمهوري من التلويح بملف الإرهاب، لأن توصيف الخطر سيختلف بدرجة كبيرة، ولن يكون مقتصرا على ترويض كيان متمرد يحرك أذرعه الطائفية لتكريس نفوذه بالشرق الأوسط بعيدا عن الغرب، فقد صار هناك ما يوثق علاقة إيران بأوراق فائقة الخطورة من السهل تنشيطها في أي وقت داخل العمق الأوروبي.
وتُعد عبارات بومبيو الأكثر وضوحا وقوة في ما يتعلق بعلاقات إيران السرية بالقاعدة منذ بدء إثارتها من قبل مسؤولين غربيين أو أكاديميين ومراقبين وخبراء في شؤون الإرهاب الدولي، فالرجل تحدث بلغة خبير الاستخبارات السابق، الذي يوظف كلماته المدروسة لبعث رسائل محددة في أكثر من اتجاه.
وللمرة الأولى يؤكد بومبيو مقتل القيادي بتنظيم القاعدة وأحد أقوى المرشحين لخلافة أيمن الظواهري على الأراضي الإيرانية، وهو أبومحمد المصري (عبدالله أحمد عبدالله) في السابع من أغسطس الماضي.
ويوازي التأكيد الرسمي على قتل هذا العنصر الخطير في إيران أهمية عملية التصفية ذاتها، بالنظر إلى أن قيادة القاعدة المركزية تضررت من اغتيال إحدى أوراق رهانها القليلة على مواصلة تعاونها مع طهران، وستتضرر بشكل أكبر من كشف واشنطن تفاصيل العملية وإعلان ملابسات إقامة قادتها بإيران.
وحرص تنظيم القاعدة طوال الفترة الماضية قبل إيران على عدم تأكيد استهداف المصري في إيران، وحاول قادته الترويج عبر وسائل إعلامهم أن الذي قُتل ليس قياديا بالقاعدة، إنما شخص لبناني ينتمي لحزب الله.
وكشف حقائق علاقات الظواهري والقادة القريبين منه بإيران ضربة قاصمة للقاعدة المركزية ونسف لما تبقى من مصداقيتها داخل حركته العالمية التي تعاني بشدة من حالة تشظ متفاقمة، فهو الذي وصف الإيرانيين بالكفار عام 2019، وحرص في رسالته المعنونة بـ”كيف نواجه أميركا” في سبتمبر 2018، وكلمته “البنيان المرصوص 2” في نوفمبر 2017 وسلسلة رسائل “الربيع الإسلامي”، على توجيه عبارات نقد لاذعة لإيران ووصف نظامها بكلمات قاسية.
من يثق في تنظيم القاعدة داخل الأوساط السنية بعد ذلك، وهو الذي طالما روج لفكرة وقوفه لرفع المظالم وإعادة حقوق المضطهدين السنة ضد أنظمتهم وحكوماتهم، بينما هو اليوم يستهدف المسلمين السنة ويحتمي قادته بالإيرانيين الشيعة؟
ويعزز فضح أكاذيب الظواهري وقادة القاعدة المركزية بالجناح المصري المرتبط بإيران رواية قادة كبار بالقاعدة ممن تركوا التنظيم بعد تيقنهم من وجود أدلة على تعاون وطيد بين قادة القاعدة وإيران، ما يعني المزيد من الانشقاقات والهروب من تنظيم ضلل قادته أتباعهم، خاصة ممن قاتلوا في سوريا واليمن وكلاء إيران.
ويفاقم طرح بومبيو من وهن قيادة القاعدة المركزية مخلفا مصدرا آخر لحالة الفصام ومساحات فراغ جديدة يقفز من خلالها المنتقدون من داخل التنظيم بالنظر إلى أنه في الوقت الذي كان يتمتع فيه كبار قادة القاعدة، مثل أبومحمد المصري وسيف العدل وعائلاتهم، بإقامة مرفهة في طهران، كانت الأخيرة توجه ضربات قاتلة لفروع القاعدة في سوريا وغيرها.
وينطوي هذا على أحد تفسيرين، كلاهما يمثل دافعا قويا للانشقاق وعدم الوثوق بالقيادة، فإما أن يكون التنظيم مخترقا من قبل المخابرات الإيرانية التي حصلت على معلومات من قادة القاعدة الذين تؤويهم مكنتها من توجيه تلك الضربات النوعية لفروع التنظيم، أو أن قادة القاعدة غائبون ومنعزلون عن الواقع ولا يهمهم سوى حماية أنفسهم وعائلاتهم، ولا يبدون اهتماما بالأتباع والأعضاء الذين يعانون في جميع أنحاء العالم.
ويُضاف كشف معلومات استخباراتية عن تفاصيل علاقة قادة القاعدة بإيران إلى انتكاسات التنظيم التي أسهمت واشنطن في تكريسها، سواء استهداف أهم قادة التنظيم ورموزه أو انشقاق فروعه وتأسيس نماذج محلية منفصلة عن المركز، ما يعني المزيد من تفكيك التنظيم وتشظيه على وقع فضح كذب الظواهري وإدراك من وقعوا ضحايا لخداعه أنهم كانوا لعبة بيد جماعة مفاتيحها بيد إيران، وهو ما يفسر تزايد عدد المنشقين والمغادرين للتنظيم خاصة في اليمن وسوريا.
توجهات جديدة
حديث بومبيو عن العثور على خطاب لبن لادن يؤكد فيه أن إيران مصدر تمويل القاعدة الرئيسي ووفرت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر الملاذ الآمن للعشرات من قادة التنظيم، لا يُعد معلومات جديدة لأن وثائق آبوت آباد التي حوت رسائل بن لادن وكافة معلومات تعاون القاعدة بإيران رُفعت عنها السرية في ديسمبر 2017 وهي متداولة منذ ذلك التاريخ واعترف بصحة ما ورد بها بعض المسؤولين الإيرانيين.
ولا ينكر أحد تلك المعلومات التي تعكس انخراط قادة القاعدة في تعاون وطيد مع النظام الإيراني للحصول على الحماية الأمنية والتمتع بساحة مساندة لحركية التنظيم ودعايته وتوجهاته الأيديولوجية، مقابل ما تستمده طهران من مزايا هذا التعاون عبر السيطرة على أنشطة الجماعة صوب الأهداف الأميركية ومنعها من مهاجمة الأراضي الإيرانية.
الجديد أن مايك بومبيو أفصح عن كمّ هائل من التفاصيل الدقيقة التي تُعلن لأول مرة بشأن تحركات قادة القاعدة في إيران وحجم علاقاتهم بالنظام الإيراني ولأي مدى توفر الأجهزة الأمنية الإيرانية الدعم الإداري والمالي واللوجستي لهؤلاء القادة الذين يتحركون بحرية من أجل الإعداد والتخطيط لعمليات التنظيم ضد أعداء مشتركين بين القاعدة وإيران.
ومن ضمن المعلومات الاستخباراتية المهمة ما أعلن عنه بشأن فرض عقوبات على قائدي القاعدة المتمركزين في إيران، وهما السلطان العارف ومحمد أباتي المعروف باسم عبدالرحمن المغربي، وهذا الأخير هو صهر أيمن الظواهري وأهم مساعديه. وكانت قد ترددت أنباء عن مقتله في وزيرستان في العام 2006، ولم يكن معروفا من وقتها إذا كان حيا أم لا، قبل أن يؤكد بومبيو أنه لا يزال على قيد الحياة، ما يعني أن قيادة القاعدة المحتملة بعد الظواهري ليست محصورة في سيف العدل، كما ذهب الكثيرون قبل إعلان هذه المعلومات.
ويتعلق التحول المنهجي بالإدراك الغربي والأميركي أن الإرهاب الإقليمي والدولي ليس سني المنشأ ولا ترعاه وتفرخه الدول الإسلامية والعربية السنية، وهو الوهم الذي اعتنقته الدول الغربية لسنوات وتسبب في العديد من النكبات التي لحقت بالمنطقة خاصة في عهد الرئيس باراك أوباما، الذي اصطفى إيران كشريك في محاربة الإرهاب وهمش الدول العربية والقوى الإسلامية الكبرى تحت زعم عدم مقدرتها على احتواء الإرهاب الخارج من أراضيها.
وتأكيد بومبيو أن إيران باتت أكبر راعية للإرهاب في العالم وأن محور القاعدة – إيران هو الذي يشكل التهديد الفعلي على أمن الولايات المتحدة والعالم ودعوته للدول الغربية ألا تقلل من خطر التعاون السني الشيعي في مجال الإرهاب، هو تحول منهجي هائل وفارق في طريق تصويب الاستراتيجية الأميركية والغربية في مكافحة الإرهاب، عبر تلمس منابعه ومصادره وتحالفاته في قلب معاقله الحقيقية بمعزل عن أوهام الماضي.
المصدر: العرب اللندنية