البعد الإنساني لاعتذار جعجع. (بقلم عمر سعيد)
الاعتذار سمو في الخلق، وأدب رفيع، يضفي السلام على الفرد، والمجتمع.
ما اعتذر إلا العقلاء، وبه ارتقى كل نبيل عن زلله.
يرفع الاعتذار قدر صاحبه، ولا ينقصه، ويؤكد إنسانيته، ويزيل عنه الكبر.
يغسل النفس من الأحقاد والكراهية، ويحصنها من الخطأ الدنايا.
والاعتذار أول المنصات القيمية التي تؤسس لعلاقات اجتماعية تليق بالإنسان والمجتمع.
ولعل أشهر ما روي عن عمر بن الخطاب، أن امرأة مسيحية جاءته تطلب سداد دينها عنها وهي بلا زوج أو ولد، فطلب منها الدخول في الإسلام، إلا أنها أبت، وخرجت.
فلام عمر نفسه من أن تظن المرأة أنه يساومها على الإسلام مقابل سداد ديونها، فعاد إليها وهو خليفة المسلمين، ليعتذر منها، ويطلب منها العفو عما بدر منه، ويوافق على سداد دينها من بيت مال المسلمين.
فأعظم العدل اعتذار المرء لمن أساء إليهم.
عندما أطل جعجع على الناس معتذراً، وقد قدم من عمره أحد عشر عاماً في زنزانة، أعاد خلالها قراءة ما حصل وحدث، فأشرق فيه الإنسان، إنسان جب باعتذاره ما قبله.
لم يعتذر سمير جعجع من الناس، بل اعتذر من خالقه، ثم من إنسانيته التي استحقت موقفه الإيماني الذي تجلى له.
جاء اعتذار جعجع لأجل إيمانه بأهمية تكريم الله في إنسانه، انسجاماً مع حديث النبي العربي محمد عليه السلام:
“كلكم خطاؤون، وخير الخطائين التوابون”
من هنا أتي البعد الإيماني الإنساني في اعتذار جعجع.
فأعمق الندم الشعور بإنسانيتنا أمام ما اقترفت أيدينا، وأعمق الشعور بإنسانيتنا النادمة جرءتنا على مواجهة أنفسنا الأمارة بالسوء، والمجاهرة بالاعتذار.
كثيرون أولئك الذين يعتذرون سراً، لكنهم يدركون مع أنفسهم معنى أن تخذلهم شجاعتهم في الإجهار باعتذارهم.
يدركون كم يوجع التستر على خطأ اقترفوه.
لقد أتى اعتذار جعجع إنسانياً، لأنه يعي معنى رجع الألم إذا ما أخذتنا العزة بالإثم.
وما حج المؤمن إلا اعتذاراً من خالقه عما أهان في نفسه وسواها.
لم يتوقف جعجع عند ذلك بل ترجم قناعته بإنسانيته التي جبت ما قبلها، فأقبل يمد يده هنا وهناك، صافح، وقَبِل، وأزال كل شوائب الأمس الذي تراكمت مشاكله.
من هنا تأتي قوة الموقف الذي فرضه على نفسه.
فما معنى أن يفرض الإنسان على نفسه الاعتذار؟
يعني أنه بلغ المسؤولية والإيمان المسؤولين عن استقامة المرء ونزاهته.
فلا اعتذار لفاسد، ولا استقامة لمن لا يعتذر.
لأن الإقرار أمام النفس اعتذاراً أعظم دروس الخلق وأصدقها.
فالإنسان لا يعتذر إلا إذا أدرك ارتجاع الألم في الآخرين.
والإنسان لا يعتذر إلا إذا أيقن أن الله يراه.
والإنسان لا يعتذر إلا إذا عرف نعمة السلام الداخلي، وقد كف عن أناه التي قدمها على سواه حين أخطأ.
والإنسان لا يعتذر إلا إذا نَبُلت ذاته، التي يؤكدها بإنسانية، تعليه في عين خالقه، ونفسه.
لم يعتذر جعجع لأنه طلب الصفح، ولا التصفيق، ولا بلسمت الجراح.
بل اعتذر لأن الاعتذار أعظم ما يقدمه الإنسان لأخيه الأنسان.
فهل هناك من معتذر في كل الطغمة الفاسدة التي تصر على انتهاك الناس جسداً وروحاً وقناعات، وتفتت الوطن؟!
عمر سعيد