الفساد، السفاهة، الإجرام، ومسؤولية “حزب الله”
هل يعقل أن انفجار مرفأ بيروت، والذي سحق الغالي من حياتها وتاريخها، كان نتيجة محاولة بعض الفاسدين في أحد الأجهزة الأمنية طمس معالم استيلائهم على المواد المخزونة في العنبر المشؤوم، وذلك على مدى أعوام طويلة، على مرأى رؤسائهم المستفيدين بدورهم، وصولا إلى الشرائح العليا من نظام النهب الممنهج في لبنان، وذلك بعد أن تحققت لجهاز أمني آخر فرصة كشف هذا الفساد؟ ربما أن تأجيل المعالجة، كما تفيد بعض التقارير، كان بعد أن أراد أحد كبار الشركاء المستحدثين في نظام النهب هذا قدرا من التبرؤ والدعاية من خلال كشف مفاجئ مزعوم عن الإيداع الخطير، ليرفع من صورته محليا وعالميا. أو ربما أنه، كما غيره، إذ أجرى الجهاز الأمني الجديد إبلاغ الرؤساء والوزراء المعنيين قبل الانفجار بأسبوعين، عن وجود المواد المتفجرة الفائقة الخطورة في المرفأ، لم يدرك فداحة الحال فأهمله.
هي السفاهة والتفاهة على أي حال. قتلت أكسندرا، وقتل نزار، وقتلت سحر، وغيرهم العشرات، وجرح الآلاف، وشرّد مئات الآلاف، وضاع جنى عمر الناس، وهدّمت معالم المدينة، بفعل جشع بعض المتخومين الذين لا يشبعون، وخبث بعض الفسدة المتذاكين في الإفلات من العقاب.
من شأن هذه القراءات أن تتعدل وتتبدل، مع اجتهاد الصحفيين الاستقصائيين في الكشف والمتابعة. والتعويل لا يمكن أن يرسو على التحقيق الرسمي، إذ من العبث الانتظار أن تسائل طبقة موبوءة نفسها. وعلى حد قول رئيس الجمهورية، بما يجسده شخصه وسيرته من معالم التعسف في الاعتبار والإخلال في المنطق والانشغال بالذات لدى كامل المنظومة، فإن التحقيق الدولي مرفوض، لأنه قد يؤدي إلى “تضييع القضية”. الأسهل والأفضل هنا طبعا، له وللآخرين من حلفائه الألداء وخصومه الأوفياء في الجسم السياسي اللبناني المريض، الإسراع بالتحقيق كيفما كان، وإيجاد من لا حماية له من صغار المتورطين لإدانتهم ومعاقبتهم، والإسراع بطي الصفحة.
سلاح “حزب الله” لم يبتكر الفساد، ولكنه مكّنه واستفاد منه وضاعفه وشارك فيه. سلاح “حزب الله” لم يبتدع السفاهة، ولكنه سرا وجهارا أصبح مبررا لها
على أي حال، الظاهر للتوّ أن المسؤولية عن الكارثة التي ألمّت ببيروت تعود إلى نظام النهب الممنهج، النهم والجشع والوقح، المتفنن بالفساد والمبدع بإيجاد السبل إليه، والذي تورطت به الطبقة السياسية اللبنانية برمّتها. هذا ما تفيده الدلائل والقرائن الأولية، دون أن تنتفي تماما فرضيات أخرى يتحمل اللوم فيها واقع الاحتلال الذي يقبع تحته لبنان، حيث ينتشر جيش مدجّج بالسلاح، مستعد للبطش، تلميحا وتهديدا وتحقيقا، غير خاضع لأية مساءلة وطنية، فيما هو يعلن جهارا نهارا ولاءه وتبعيته للخارج. هو “حزب الله” طبعا، حزب إيران، حزب السلاح.
لبنان اليوم هو أسير تواطؤ الفساد والسلاح. ومحاولات التعمية عن هذه الحقيقة غالبا ما تقتصر على إيجاد المبررات لها، من باب أن المسألة تتجاوز حدود هذا الوطن الصغير، أو أن قوى الاستكبار مجتمعة قد عجزت عن تجريد “حزب الله” من سلاحه، أفليس الأجدى السعي إلى معالجات للفساد لا تشترط التخلي عن السلاح؟
ولكنه من العبث إهمال هذا “التفصيل”، والذي يشكل في واقع الأمر صلب المأزق اللبناني. ليس أن السلاح هو من اجترح الفساد، وليس أن “المقاومة”، يوم كانت مقاومة، لم تتصد للاحتلال الإسرائيلي وصولا إلى إرغام المحتل على الاندحار. غير أن هذه الحجج العرضية، وإن لامست الصحة بالأمس، تنتفي اليوم بفعل التواطؤ الحاصل بين من أهان غيره حين وصف نفسه بأنه “أشرف الناس”، وبين الإقطاعية الجديدة، الموغلة بالنهب والمتسلحة بالطائفية.
بل من حيث المبدأ ومطلق البداهة، لا يجوز تأخير الاعتراض على سلاح “حزب الله”، قبل الكارثة، وقبل الوباء، وقبل الانهيار الاقتصادي، لأنه لا قيامة لوطن يرتع فيه سلاح ولاؤه لخارجه. أن تحضر قوة قاهرة، تتبجح بأنها خارج المساءلة هو تعريف لوطن محتل، لا لوطن مستقل.
ما يدعو إلى الاعتراض على سلاح “حزب الله” والإصرار أن يكون نزعه في طليعة القضايا الوطنية ليس انفجار المرفأ، بل هو مجرد وجود هذا السلاح خارج حصرية الدولة. على أن الشأنين متداخلين، وصولا إلى أن المسؤولية عمّا جرى تقع أيضا على “حزب الله”، أي على إيران طبعا بتبعيته الصريحة لها.
المسار الذي أراده اللبنانيون منذ مئة عام هو التدرج باتجاه تجاوز الطائفية. خلافا للمطروح جزافا، ليس الانتداب من أرسى الطائفية، بل فيه جرى تصوّر الإطار لتخطيها. وإذا كان السير على هذا الدرب سجالا بين مصالح الإقطاعية القديمة المتجددة والمتسلحة بالطائفية، وبين روابط وعلاقات متعززة عابرة للطوائف، فإن التقدم بقي بطيئا ورجائيا، حتى قبل أن تعترض سبيله مصالح دول الجوار وما أقدمت عليه من احتلالات.
ليس من أجل هذا قام لبنان، ولا من أجل هذا عاش لبنان حروبه ومآسيه
جمهورية الطائف، “الجمهورية الثانية”، أرادت أن تكون أكثر واقعية، أقل رجائية، وأوضح تدرجا. غير أنها انضوت على ما ينقضها وما يبطلها حين رضيت، وإن مكرهة، على تلزيم مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لجهة طائفية. “حزب الله”، أي إيران، لم تتفرد بمقام الشرف، بأن تقاوم الاحتلال، إلا بعد أن اغتالت الشرفاء، وهمّشت المقاومين، ورفعت راية دولة خارجية لتطهير الوطن من راية دولة خارجية أخرى.
“حزب الله” جيش طائفي يصرّ الخطاب السياسي في لبنان على تجاهل طابعه هذا، بل يعمد إلى الاستهجان إن طرح الأمر على حقيقته. هو بكامل أفراده وقادته مشتق من طائفة واحدة في لبنان، هو الضابط لمعظم أحوالها، وإن استعصى عليه وضع اليد عليها بالكامل. وقائد هذا الجيش له أن يهدد ويتوعد، ويوجّه ويتفقّه في كل شاردة سياسية وواردة. ولكنه حين يطاله النقد، فالحذار الحذار، لمقامه الديني المنزّه. وعقيدة الحزب تزّج الوطن في الحروب، تستعدي وتصادق كيفما شاء ولي أمرها في الخارج. ولكن حين تُفنّد، وهي ابنة العقود القليلة حديثة العهد في الفقاهة الإمامية، تعلو الأصوات بأن في الأمر عدوان على الإيمان.
كيف يعقل أن يكون المطلوب من اللبنانيين تجاوز الطائفية والسعي إلى الانصهار بوحدة وطنية، مع التسليم في الآن نفسه باقتطاع طائفي مسلح قاهر يعمل على فرض نفوذه، بالترغيب والترهيب حيثما استطاع داخل سائر الطوائف، فيما هو يحصّن الطائفة التي يزعم تمثيلها بالتعبئة العصبية حينا وبالتوريط المالي والمعنوي أحيانا؟
ما لا مفرّ من الإقرار به هو أن لبنان، بوجود “حزب الله” وبغضّ النظر عن شعارات الأبدية والدوام، هو وطن مؤقت لغالب أبنائه. من استطاع منهم أن يجد سبيل النجاة لنفسه ولأولاده بالهجرة إلى أوطان يتساوى بها كمواطن مع غيره، أوطان تحفظ له كرامته، ولا تلزمه بحروب الآخرين، ولا تجعل من ذريته وقودا لوعود المرشد والسيد، يفعل، وإن على مضض، وإن عجز عن الإقرار لنفسه.
أما من بقي في لبنان، وإن أشهر شعارات القوة والحقوق وما أشبه، فهو على يقين، وإن مطموس، بأن الوطن ليس وطنه، وأن هذا الاحتلال الخفي الذي استولى على طائفة وألبسها ثوبا ليس منها، هذا الجسم الغريب، سواء رضي به وجاراه، أو حاول التصدي له بالمحافظة على مساحة وإن ضيقة من وطنه الصغير للتوّ، باقٍ ويتمدد، وسائر باتجاه ابتلاع كامل الوطن.
ليس غريبا أن تكون أشنع مظاهر الفئوية والعنصرية والفوقية، والسفاهة والتفاهة، صادرة عن حلفاء “حزب الله”، فهو، بانضباطه النسبي قادر على تقنين الخطاب، وتنفيس الشحن الفئوي وفق الحاجة الموضوعية. ليس هذا حال المتعملقين والمتسلقين على جبروته، بل هم ساقطون في خطابهم، ومتدرجون بدورهم، ليس باتجاه تجاوز الطائفية، بل الإمعان بها.
وجود “حزب الله”، حزب السلاح والتبعية، هو نقيض لبنان الواحد، بل هو المبرر المنطقي والسليم للمطالبة بالتقسيم. قادة “حزب الله” يريدون لهذا الوطن أن يكون عنوانه المقاومة، لا الملاهي الليلية، وأن يتصدى لكيان العدو المختار عند الحدود، وأن يقاتل في جبال اليمن وبوادي الشام والعراق، تارة يحارب التكفيريين، وطورا قوى الرجعية والاستكبار. سائر أهل هذا الوطن، من الطائفة التي يضيق عليها “حزب الله” الخناق وغيرها، يريدون الحياة، والحرية والاطمئنان. لا تعايش بين هذا وذاك، ولا إمكانية تأسيس وطن واحد.
ساعة تغيب القناعة بلبنان الواحد، كواقع معتل أو كمستقبل سليم، يصبح الفساد إحقاقا للحق وضمانا مزعوما لحقوق الطائفة قبل أن ينفد الموجود ويستولي عليه الآخرون.
“حزب الله” جيش طائفي يصرّ الخطاب السياسي في لبنان على تجاهل طابعه هذا
والدة الطفلة الشهيدة ألكسندرا نجار قالت، صادقة صائبة، بأن من قتل ابنتها ذات الثلاثة أعوام في انفجار المرفأ هما اثنان، زعماء لا يستحقون هذا اللقب، وأتباع لهم ساروا خلفهم وامتنعوا عن المطالبة بلبنان الواحد.
ما يحرّك بعض هؤلاء الأتباع هو الجشع، والحصة، وإن ضئيلة، من فتات موائد الزعماء. على أن جلّهم مدفوع بالخوف والحاجة.
هم يستشفون من وجود “حزب الله” ما يقتضيه سلاح هذا الحزب من خراب آت لا محالة في حرب مدمرة، قد تنجو منها إيران البعيدة فيما تتمكن إسرائيل من حصر ما يطالها منها من أضرار. أما لبنان، فمن شأنه أن يسقط شهيدا، ببشره وحجره، ومن شأن الحزب أن يبارك لأهل الموتى بشهادة أحبائهم، وأن يعلن نصرا إلهيا جديدا إذا توقفت إسرائيل عن إفنائه، وإن دمرت لبنان وأعادته قرونا إلى الوراء.
ليس من أجل هذا قام لبنان، ولا من أجل هذا عاش لبنان حروبه ومآسيه. من اللبنانيين من يرفضون بإصرار هذه الخاتمة العتيدة المخيفة ويعملون على التصدي لها، غير أن قدراتهم محدودة. ومن اللبنانيين من ارتضوها قضاءً وقدرا، ورأوا أن بعض الفرصة متاحة أمامهم اليوم لتحصيل ما تيسّر، على شحتّه، من زعمائهم، عساهم يجدون سبيل النجاة في اليوم الموعود. لدى هؤلاء، الفساد ليس فسادا، أو على الأقل هو فساد مقبول وليس موضع اعتراض، إذا جاء نتاجه لصالح زعيمهم أو طائفتهم.
سلاح “حزب الله” لم يبتكر الفساد، ولكنه مكّنه واستفاد منه وضاعفه وشارك فيه. سلاح “حزب الله” لم يبتدع السفاهة، ولكنه سرا وجهارا أصبح مبررا لها. سواء كانت جريمة تفجير المرفأ واغتيال بيروت وليدة الفساد المجرم السفيه، وهو ما يبدو راجحا، أو كان في الأمر تورط أعمق لـ “حزب الله”، فإن هذا الحزب بوجهه الدخيل على الحقيقة اللبنانية، أي قطعا ليس بأهله وبيئته بل بقراره المصادر وسلاحه، هو المسؤول، وإن معنويا، عن هذه الجريمة المتحققة في بيروت، ومن شأنه أن يكون المسؤول، ماديا ومعنويا، عن الجريمة التالية التي يسير إليها الوطن، أي القضاء على لبنان كما عهده ناسه وكما عرفه التاريخ.
حسن منيمنة _ الحرة