طهران تستعجل التفاوض بواسطة العنف
كتب عماد الشدياق في صوت لبنان:
لم يمنح وجود رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي في طهران أمس، تزامنا مع استهداف ناقلتي نفط كانتا متوجهتان من بحر عُمان الى اليابان حسبما قيل، صك براءة للنظام الايراني. فقبل اتهام وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إيران بحادثة ناقلتي النفط بساعات، انبرت أصوات تقلل من احتمال بلوغ طهران هذا الحد من الوقاحة في استهداف مصالح دولة حملت على كاهلها عبء الوساطة بغية الحد من تداعيات العقوبات الأميركية، معتبرة هذه الأصوات أن ذلك سيضعف حتما من موقف الإيراني التفاوضي ويزيدها إحراجا. إلا ان الأمور لم تكن كذلك أبدا، فالنفط كان في طريقه الى اليابان (سبق وتخلت عن الخام الإيراني تنفيذا للرغبة الأميركية) ولم تستلمه، كما أن الناقلتين لا تخصاها.
بومبيو أكد أمس، أن اتهام طهران بالهجوم “يستند إلى معلومات من الاستخبارات”، شارحاً أن “نوع الأسلحة وأسلوب الهجوم ومعلومات المخابرات تؤكد تورط إيران، ولا توجد مجموعات تعمل بالوكالة في تلك المنطقة تملك الموارد أو الكفاءة للتحرك بهذه الدرجة العالية من التطور”. لكن بمعزل عما اذا كان هذا الاتهام صحيحا أم لا، فثمة دلالات تشير بقوة الى أن لإيران أسبابا تدفعها صوب السخونة والتصعيد على “حافة الهاوية”، شريطة تجنب التورط بحرب مدمرة بمواجهة الولايات المتحدة.
لقد أدركت طهران مبكرا أن الجميع لا يريد حربا معها، وهذا الأمر وسّع عندها هامش المناورة. صحيفة “نيويورك تايمز” ذكرت منتصف الشهر الفائت، أنترامب أرسل إلى مساعديه يبلغهم بأنه لا يريد تحوّل حملة الضغط على إيران إلى صراع مفتوح، وذلك بعد أن قدمت هيئة الأركان لترامب مجموعة من الخيارات العسكرية. حتى السعودية كشفت نهاية أيار بلسان وزير الشؤون الخارجية عادل الجبير، قبيل أهم قمتين طارئين موجهين ضد ايران بالذات، أنها لا تريد الحرب معها. فبعد تأكدها بأن لا حرب ستُشن عليها، اختارت ايران أن تُوجِع الآخرين بالمكان الذي أوجعوها به: قطاع النفط.
تعرف ايران أن سياسة ترامب قائمة على خفض سعر برميل النفط وهو لا يتيق ارتفاعه، لأن ذلك يقوّض نجاحاته الاقتصادية بالداخل الاميركي وخارجه، خصوصا بعدما تمكّن بمساعدة المملكة العربية السعودية من سحب حصة ايران (مليونا برميل يوميا) من الاسواق العالمية من دون أن يؤدي ذلك الى ارتفاع أسعاره أو الى خلق أزمة طلب لدى المستهلكين. ولهذا، تصب طهران تركيزها على المنشآة النفطية في السعودية وعلى ناقلات النفط في الخليج العربي. بالفعل، ارتفع بعد حادثة بحر عُمان صباح أمس سعر برميل الخام العالمي 3 في المئة، فبلغ نحو 62 دولارا للبرميل، وكما أن ترجيحات بدأت تتحدث عن تواصل هذا الارتفاه في حال استمر التوتر.
أضف الى هذا كله، أن ارتفاع سعر النفط سيعود على طهران بالفائدة، إذ تفيد تقارير منذ مدة عن تمكن طهران من التفلت نسبيا من العقوبات الاميركية، وذلك من خلال تهريب النفط ونقله في البحر من سفن الى أخرى، ثم بيعه بـ”السوق السوداء”، أو بيعه للحلفاء. آخر هذه تقارير كان لصحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية أمس، الذي أكد أن النفط الإيراني مازال يُهرب لنظام بشار الأسد في سوريا عبر قناة السويس في مصر (الحليف الصامت للاسد والمنفذ الوحيد من الخليج الى المتوسط)، كاشفا ان الضغط الأميركي على ايران شكل فرصة ذهبية للأسد من أجل الاستفادة من نفطها، مشيرا الى وصول 5 ناقلات إيرانية تحمل كل واحدة قرابة مليوني برميل إلى ميناء بانياس منذ أوائل أيار الماضي وبحسب ما أظهرته صور للأقمار الصناعية صادرة عن شركة “تانكر تراكرز”، وقدرت قيمتها بنحو 60 مليون دولار.
فإيران مأزومة اقتصاديا وتعرف ان الاستمرار بهذا المنحى طويلا لن يجدي نفعا، كما ان التغنّي بمواجهة العقوبات على مدى نحو 40 سنة منذ الثورة أمر لم يعد قابلا للتطبيق كما من قبل، خصوصا بعد التطور التقاني بالأنظمة والأجهزة الرقابية المالية والملاحية البحرية والجوية على مستوى العالم، مقارنة بالجدية التي تقابلها بها الولايات المتحدة. هي تدرك جيدا أن هذا كله سيؤدي حتما الى انهيار النظام على نفسه، ولهذا تستعجل التفاوض بواسطة المزيد من التصعيد والعنف، ظنا أن ذلك سيوصلها الى مائدة التفاوض بأوراق رابحة باكرا جدا خصوصا بعد أن بدأت مؤشرات التفسخ الداخلي تطفو على السطح. قبل يومين نقلت “قناة الحرة” خبرا عن فرار عدد من كبار ضباط الحرس الثوري الإيراني، لم يتسنَ معرفة المزيد عن تفاصيله.
قد تعود طهران الى لعبة قديمة اعتادت في كل مرة أن تلعبها حينما تشعر بخطر محدق، لعبة الصقور والحمائم داخل النظام. تكتيك الايحاء بأن ثمة دبلوماسية حكيمة يقودها وزير الخارجية محمد جواد ظريف فوقه رئيس دمث اسمه حسن روحاني يرفض الحروب وينبذ العنف، يبحث عن التهدئة والحوار سبيلا، يستقبل الوفود والمبعوثين ويسخى بالضيافة ويسمع للأصوات العاقلة في العالم، بمقابل مجموعة متفلتة يديرها الحرس الثوري بمساندة المرشد ولها أجندتها الخاصة. تماما مثلما كان الحال عشية جولات التفاوض في عهد الرئيس الاميركي المحبب الى قلب النظام في إيران باراك أوباما، والتي أفضت في النهاية الى توقيع معاهدة الاتفاق النووي عام 2015 بتحفظ صُوَري من خامنئي والحرس… معزوفة قديمة – جديدة سنسمعها مجددا بوسائل الاعلام في ما يبدو!