كيف تحولت إيران إلى مسلخ منهجي لحقوق الإنسان؟

لم يشهد تاريخ إيران الممتد لقرون حقبةً كالتي عاشتها في السنوات السبع والأربعين الماضية؛ حقبةٌ تحولت فيها عبارة “حقوق الإنسان” من مجرد مبدأ قانوني أو مطلب نخبوي إلى الهاجس الأكبر والأكثر إيلاماً في الوجدان السياسي والاجتماعي للإيرانيين. إننا لا نتحدث هنا عن تجاوزات شرطية أو أخطاء قضائية، بل نتحدث عن “هندسة عكسية” لمفهوم الدولة، حيث أصبح انتهاك كرامة الإنسان هو العمود الفقري لبقاء السلطة.
في ظل حكم “ولاية الفقيه”، نحن أمام سابقة تاريخية لم تعرفها إيران من قبل: نظام يبدأ “مذبحة الحقوق” في عقله الفقهي وتشريعاته الدينية قبل أن ينفذها بالسياط والمشانق في الميادين. إنها جريمة تبدأ كفتوى وتنتهي كمقبرة جماعية. لم يحدث في أي عصر مضى أن تم سحق الكرامة الإنسانية بآلة قمع “فقهية – جنائية” منظمة تحت عباءة المذهب كما يحدث اليوم، مما جعل ملف إيران في المحافل الدولية هو الأثقل والأكثر سواداً بين الأمم.
إن المأساة في إيران اليوم تتجاوز أسوار السجون. لقد نجح نظام الملالي في ربط انتهاك حقوق الإنسان بأساسيات الحياة؛ فالخبز، والماء، والهواء، والبيئة، وحتى الأوكسجين الذي يتنفسه الناس، باتت كلها رهينة لسياسات القمع والفساد. إنه نظام لا يكتفي بقتل المعارضين، بل يمارس “إبادة للعقول”، حيث يتم تهجير النخبة، واغتيال الفكر، ومعاداة العلم، في أكبر عملية نزيف للأدمغة عرفها تاريخ البلاد، لأن العقل والتخصص يمثلان نقيضاً وجودياً لـ “عهد المشايخ”.
وبعد مرور ما يقارب النصف قرن، لا تزال المطالب البديهية بـ “الحرية والمساواة” هي الأعلى صوتاً. ورغم تقادم الزمن، لا تزال عقلية الحكام في طهران تراوح مكانها في عصور “البداوة السياسية”، حيث لا اعتراف بكرامة البشر ولا بكونهم أعضاء متساوين في الأسرة الإنسانية. لقد أوصل هذا التجاهل والتحقير المجتمع الإيراني إلى قناعة راسخة بأنه لا طريق لانتزاع الحقوق إلا عبر “العصيان” والانتفاضة الشاملة.

ولعل المفارقة الأكثر دلالة تكمن في الخوف المرضي للنظام من “الوعي”. ففي حين تحشو الحكومة المدرسية عقول الأطفال بصور الإعدامات، وتمجد الحجاب القسري، وتزرع ثقافة الحرب والموت في المناهج الدراسية، نجدها ترتعد خوفاً من السماح بتدريس “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” ومواده الثلاثين. إنهم يدركون بحدس الطغاة أن وعي الجيل الجديد بحقوقه الأساسية يعني انهيار أسطورة “القداسة” التي يتخفون خلفها، وأن تطبيق مبادئ هذا الإعلان يعني أن حكومتهم لن تصمد شهراً واحداً.
إن المعادلة اليوم واضحة: الجهل هو “خبز” هذا النظام، والوعي هو “سمّه”. لذا، فإن التنظيم السياسي والمدني المستند إلى مبادئ حقوق الإنسان ليس مجرد نشاط حقوقي، بل هو “حكم بالإعدام” على مدرسة الديكتاتورية الدينية. إن إيران اليوم تقف على مفترق طرق، حيث لم يعد النضال من أجل حقوق الإنسان ترفاً، بل هو معركة وجود لإنهاء حقبة مظلمة استمرت 47 عاماً، وبناء مستقبل يليق بشعب لم يتوقف يوماً عن دفع ثمن الحرية من دمائه.





