عودة الطوق الدولي على طهران: من يورانيوم 60% إلى «حكم المقصلة» في الداخل

تدخل إيران مرحلةً دولية جديدة عنوانها انعدام الثقة ببرنامجها النووي وعودة العزلة القانونية عليها، فيما ينعكس هذا الطوق الخارجي مباشرةً على الداخل عبر تصعيد القمع والإعدامات كسياسة بقاء. خلال الأسابيع الأخيرة، تَكثَّفت إشارات القلق الأوروبية والبريطانية داخل محافل الأمم المتحدة، وتَكرَّس مسار «ما بعد آلية الزناد» بإعادة فرض العقوبات الأممية. النتيجة السياسية واضحة: النظام يفتقد نافذة الانفراج، ويتجه لتعويض الفشل الخارجي بقبضة داخلية أشد.
لحظة كشف الحساب النووي: أرقام مقلقة و«لا ثقة»
في لندن، أكدت وزيرة الخارجية البريطانية إيفيت كوبر أمام مجلس العموم أنّ طهران تجاوزت منذ 2019 حدود الاتفاق النووي دون أي مسوّغ مدني، مشيرةً إلى امتلاكها أكثر من 440 كلغ من اليورانيوم المخصّب بنسبة 60%—مستوى يقترب من الاستخدام العسكري. هذه المعطيات ليست تقنية فحسب؛ بل تُترجم سياسيًا إلى قناعة متزايدة بأن برنامج النظام خرج من إطار «السلمي البحت» ودخل حيز «القدرة الخطرة» التي تلامس العتبة العسكرية.
في الأمم المتحدة، جاء صدى أوروبي متطابق تقريبًا: هنغاريا دعت إلى التزام كامل بمعاهدة عدم الانتشار وبروتوكولات الرقابة؛ إيرلندا وصفت تحديات منع الانتشار في إيران بأنها «عميقة وفورية» وطالبت بتعاون غير منقوص مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية؛ التشيك ذكّرت بأنّ الوكالة لا تستطيع تأكيد السلمية البحتة للبرنامج في ظل رفض التعاون الكامل؛ وكرواتيا شدّدت على الشفافية والوصول غير المقيّد للمواقع. هذه المواقف تجتمع عند نقطة واحدة: انعدام الثقة.
«ما بعد الزناد»: عودة منظومة العقوبات وتبدّد هامش المناورة
على المستوى الإجرائي، فعّلت لندن وباريس وبرلين مسار «الزناد» في 28 أغسطس، لترجع منظومة العقوبات الأممية إلى الحياة القانونية بعد أن كانت مجمّدة باتفاق 2015. ثم في 1 أكتوبر حدّثت بريطانيا قوانينها الداخلية لإعادة تفعيل تلك العقوبات. عمليًا، هذا يعني إعادة القيود على المنظومة المالية والتسليحية والنووية للنظام، وتجفيف مسالك الالتفاف التي اعتاد عليها خلال السنوات الماضية. ومع تشدد بيئة الامتثال في أوروبا، ستتعاظم كلفة أي تعامل مع الكيانات المرتبطة بالمشروع النووي والأذرع الأمنية.
هذه العودة الصارمة تضرب قلب «اقتصاد الظل» الذي يقوم عليه الحكم: إيرادات بالعملة الصعبة تتقلّص، قنوات الاستيراد والتحويل تُخنق، والاقتصاد غير المنتج يواجه موجات تضخم وبطالة أشد. حين تتزامن «لا ثقة» خارجية مع «لا سيولة» داخلية، تتآكل قدرة السلطة على شراء الولاءات أو تهدئة الشارع بإعانات مؤقتة.
داخل النظام: من فشل الردع الخارجي إلى ردع المجتمع
في مثل هذه البيئات، تلجأ الأنظمة الهشّة إلى ما تُجيده: الردع الداخلي. فكلما تزايد الضغط القانوني والمالي من الخارج، يتسع هامش القرارات الأمنية في الداخل. على الأرض، تظهر هذه المعادلة بثلاثة مظاهر متلازمة:
- تسييل الملف النووي إلى سردية أمنية داخلية: تصوير أي اعتراض على السياسات بوصفه «اختراقًا» يخدم «المؤامرة على البرنامج»، بما يبرّر الاعتقالات والمحاكمات الاستثنائية.
- رفع منسوب الإعدامات: المقصلة تتحول إلى «إشارة قوة» للقاعدتين الأمنية والإدارية للنظام، ورسالة تخويف مزدوجة للمجتمع بأن كلفة الاحتجاج ستصعد.
- تغذية اقتصاد القمع: مع تقلص الموارد، يُعاد توجيه المتاح نحو الأجهزة الأمنية والسجون والمحاكم الثورية، على حساب الخدمات والرواتب والدعم الاجتماعي، ما يعمّق السخط العام ويغذّي حلقة احتجاج–قمع مغلقة.
هكذا تتكوّن دائرة مفرغة: العقوبات تعمّق الأزمة، والأزمة تُستثمر لتبرير القبضة، والقبضة تولّد مزيدًا من الاحتقان.
لماذا تتزايد الحاجة إلى القمع الآن؟
الجواب في «التزامن»:
- خارجيًا، انهيار رصيد الثقة مع الوكالة الدولية والاتحاد الأوروبي وبريطانيا يجعل أي تفاوض مكلفًا سياسيًا.
- قانونيًا، عودة قرارات مجلس الأمن تُحاصر الشبكات المالية واللوجستية للنظام، وتقلّص قدرته على شراء الوقت.
- اقتصاديًا، تراجع العملة وارتفاع الأسعار يوسّع قاعدة المتضررين من عمّال ومتقاعدين وطبقات وسطى، ما يرفع حجم الشارع المؤهَّل للاحتجاج.
- تنظيميًا، تراكم الخبرة الاحتجاجية في النقابات والقطاعات (اتصالات، إسكان، خبز، مواصلات) يخلق شبكات مرنة قادرة على التنسيق الأفقي.
أمام هذا التزامن، يرى صانع القرار في طهران أن الكلفة الحدّية للإصلاح أعلى من الكلفة الحدّية للقمع في المدى القصير؛ فيختار الثاني، مع علمه بأنه حلّ مؤقت يُفاقم المشكلة على المدى المتوسط.
إلى أين؟
سيناريوهان واقعيان:
- سيناريو «تثبيت بالمقصلة»: تصعيد أمني وقضائي واسع، مع رسائل استعراضية (إعدامات متقاربة زمنياً، قضايا ذات طابع سياسي). قد يشتري هدوءًا هشًا، لكنه يعمّق عزلة النظام ويقوّي مرافعات الإحالة إلى مجلس الأمن والمحكمة الجنائية.
- سيناريو «مُسكّنات بلا إصلاح»: تنازلات مالية جزئية ووعود إجرائية، مقابل إبقاء المسار النووي على حاله. يُخفّض منسوب الاحتقان لحظيًا، لكنه لا يعالج «لا ثقة» الدولية ولا «لا عدالة» الداخلية، فتعود الدوّامة سريعًا.
ما تكشفه لندن والأوروبيون اليوم ليس رقماً جديداً في سجلات الوكالة فقط، بل انهيار العقد غير المكتوب الذي سمح للنظام بالمراوغة بين «سلمي» و«عسكري». ومع كل خطوة نحو إعادة العقوبات، ينغلق هامش المناورة الخارجي، فيتعاظم ميل السلطة إلى حكم المقصلة في الداخل. هذه ليست إدارة أزمة؛ إنها إدارة نهاية مؤجلة: كلّ يومٍ من القمع يراكم أدلة الإدانة ويُوسّع قاعدة السخط، ويقرّب لحظة الحقيقة حيث لا ينفع لا «60%» ولا سرديات التضليل.
باختصار، اليورانيوم المخصّب يُنتج عزلةً لا ردعًا، والعزلة تُنتج مقاصل لا استقرارًا. وما بين طاولة الوكالة الدولية ومنصّات الأمم المتحدة وشوارع المدن الإيرانية، تتشكّل معادلة واحدة: نظامٌ لا يملك سوى القمع حين يخسر كلّ شيءٍ آخر.