ساحات دول «محور إيران» تُنازع ولا تجزئة للحل: من سوريا ولبنان إلى العراق واليمن
القدس العربي
في مقابلته مع محطة سكاي نيوز، قال رئيس النظام السوري بشار الأسد: «بالنسبة لنا في سوريا، ابتعدنا عن الملف اللبناني منذ أقل من عقدين من الزمن ونحاول أن نبني علاقات طبيعية مع لبنان دون الدخول في هذه التفاصيل في الوقت الحالي». ما قصده الأسد أن هذا الابتعاد حصل منذ خروج الجيش السوري من لبنان في نيسان/إبريل 2005 بفعل تداعيات اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وهو خروج أعقب ثلاثين سنة على وجود نظام حافظ الأسد فيه، وصياً ولاعباً ومستثمراً في الصراع الإقليمي والدولي، الذي كان قائماً خلال الحرب الباردة ما بين الكتلتين الشرقية والغربية، عبر الساحة اللبنانية التي شكَّلت ولا تزال ساحة مفتوحة، تارة على الرسائل الخشنة، وتارة أخرى على الرسائل الناعمة.
وما لم يَقُلْه الأسد هو أن التركة السورية، بكل عناصرها، قد أُعطيت وكالتها إلى الأمين العام لـ«حزب الله» الذي نزل بشخصه في 8 آذار/مارس 2005 إلى ساحة رياض الصلح في مهرجان جماهيري ليقول كلمته الشهيرة: «شكراً سوريا». مهرجان الشكر هذا المتوَّج بخطبة السيد حسن نصر الله شكَّل حافزاً قوياً لغالبية اللبنانيين المناوئين لسوريا، المتهمة جرّاء قبضة نظامها الأمني على البلاد، باغتيال الحريري، للنزول في 14 آذار/مارس إلى ساحة الشهداء في تظاهرة مليونية وحَّدت أطياف المجتمع اللبناني في مشهد لم يسبق أن شهد لبنان مثيلاً له، حيث جمعت أكثرية المسيحيين والسُّـنّة والدروز ونخباً شيعية على قلب واحد في ما عُرف بـ«ثورة الأرز» أو «انتفاضة 14 آذار».
تلك الوكالة، التي استُقطعت منها فترة اتفاق «السين – السين» (العاهل السعودي الملك عبد الله والرئيس السوري) ما بين 2009 – 2011 جرى تكريسها لنصر الله بعدما انقلب محور سوريا – إيران على تسوية الدوحة 2008 وأضحى النظام السوري، بعد ثورة شعبه عليه منذ آذار/مارس 2012 أسيراً أكثر فأكثر لإيران وأذرعها العسكرية الميليشياوية وفي مقدمها «حزب الله» الذي انخرط بكل قواه في الحرب السورية، ولا يزال حاضراً بقوة في المشهد السوري ويتوسَّع، خصوصاً أن روسيا حليف النظام ومنقذه الرئيسي منخرطة راهناً في حربها على أوكرانيا.
«اذهبوا إلى السيّد»
يكفي ما يسمعه السياسيون اللبنانيون الذين يقصدون دمشق بين الحين والآخر بهدف الاستعانة بها كما في زمن الوصاية من جملة أصبحت شهيرة في لبنان: «اذهبوا إلى السيّد». يقرُّ الأسد بأن «حارة حريك» هي المرجع بدل دمشق، على الأقل حتى إشعار آخر. ربما سيبقى الحال هكذا لسنوات طويلة. فحتى لو جرى وضع فرضية أن نظام بشار الأسد سيستعيد عافيته، فالطريق طويل أمامه، إذ ما زالت أجزاء أساسية من الجغرافيا السورية خارج سيطرة الدولة، حيث تتمركز الثروة النفطية والمائية والسلّة الغذائية بيد الأمريكيين وحلفائهم في الشرق، وتقع مناطق واسعة من الشمال بيد تركيا تحت سيطرة المعارضة التابعة لها. وحيث تفتقد مناطق النظام لهيبة الدولة ولسيطرتها الفعلية سواء في بقع نفوذ الروس أو بقع تمدُّد الإيرانيين وميليشياتهم بلباسهم العسكري حيناً، وبلباس الجيش السوري حيناً آخر، كما يحصل في منطقة الجنوب السوري التي شملتها اتفاقات خفض التصعيد برعاية أمريكية ـ روسية ـ إسرائيلية – أردنية، والتفَّ عليها الأسد. تلك المنطقة بدأت، على وقع الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة وانهيار العملة الوطنية مقابل الدولار وسياسة رفع الدعم والفلتان الأمني، تشهدُ هذه الأيام تحرّكات واحتجاجات شعبية ضد النظام تتركّز في درعا مهد الثورة، وكذلك في محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية التي حاولت النأي بنفسها كأقلية سورية عن الحرب.
العين اليوم على تلك الاحتجاجات وما يُحكى عن إمكان أن تتمدَّد في مناطق النظام حتى ضمن الشارع العلوي الذي ينتمي إليه الرئيس السوري. لا يزال من المبكر التكهن بالمدى الذي يمكن أن تصل إليه الحملات الاحتجاجية التي عادت لتطالب برحيل الأسد، وتُوسم روسيا بـ«المحتل». النظام وحلفاؤه في موقع الترقّب، ينتظرون ليخرج ما هو كامن تحت الأرض. يدركون أن للاحتجاجات أبعاداً محقّة كون الوضع المعيشي لم يعد يُحتمل، لكنهم يريدون تقييم ما إذا كان هناك احتضان من قبل القوى المؤثرة في المشهد السوري لهذه الاحتجاجات، وما إذا كان هناك تحريك لها، وهل هناك محاولات دعم لاستعادة بدايات الـ2012 أم أن ما يجري يدخل فقط في إطار ممارسة ضغط على رأس النظام الذي جاء العرب ليعاودوا احتضانه وأعادوه إلى صفوف الجامعة العربية ووضعوا «خارطة طريق» لحل الأزمة السورية على أساس «الخطوة مقابل الخطوة» فإذا به يمضي في تمييع الأمور والالتفاف على الخطوات والتهرّب من استحقاقات إطلاق سراح المعتقلين ووضع عودة النازحين على سكة الحل واستكمال عمل اللجنة الدستورية المؤلفة من النظام والمعارضة المعنية بوضع دستور جديد للبلاد.
مربع الانهيار الشامل
يشتدُّ الخناق الاقتصادي على سوريا، ويتواصل انهيار العملة السورية ويزداد الفقر والجوع. مهما قال الأسد إنه استطاع تجاوز «قانون قيصر» في إطار «الحرب الناعمة» فإن سوريا كما لبنان الذي يتحكَّم «حزب الله» بقراره الاستراتيجي وبمؤسساته هما في مربع «الانهيار الشامل» والعراق واليمن المحكومين من قوى تُشكِّل جزءاً من «الحرس الثوري الإيراني» يتخبّطان. مقولة المناهضين لنظام الجمهورية الإسلامية ومُرشدها الخامنئي هي أنه «حيث تحلُّ إيران يحلُّ الخراب» ومقولة منظري «المحور» أن «أمريكا تتبع سياسة تحويل دول محور الممانعة إلى أشباه دول».
إنها «وحدة الساحات» التي يُهدِّد بها نصر الله عسكرياً إسرائيل وأمريكا على الدوام إذا ما تعرَّضت إيران ومصالحها لأي خطر. وكذلك يرى مناهضو إيران أنه ليس في الإمكان تجزئة تلك الساحات أو توقُّع أن إصلاح وضع في ساحة قد ينسحب على الساحات الأخرى. ما يجري اليوم في تلك الساحات هو لعبة «عضّ أصابع» وسباق نحو مَن يصرخ أولاً، وممارسة كل أنواع الضغوط من أجل تحسين شروط التفاوض الذي تُظهر الأحداث أنه جارٍ بين الأمريكيين والإيرانيين، وأسفر بالأمس اتفاقاً في شأن إطلاق سراح معتقلين أمريكيين من أصل إيراني مقابل رفع تجميد أموال إيرانية في كوريا الجنوبية وإطلاق سجناء إيرانيين في أمريكا خرقوا العقوبات.
تُعزِّز أمريكا مواقعها وقواعدها في العراق وسوريا وتلوِّح بإقفال معبر البوكمال على الحدود العراقية – السورية الذي يمثل الشريان الحيوي لطهران للوصول إلى سوريا ولبنان، فيما تتفاوض مع الإيرانيين بـ«المباشَر» أو بـ«الواسطة» على ملفات عدة، تبدأ من إطلاق السجناء والنووي الإيراني والصواريخ الباليستية والمسيَّرات التي تُمنح لروسيا ولا تنتهي بالنفوذ والتمدّد في المنطقة وإسرائيل. وكذلك تفعل واشنطن مع السوريين، حيث تستمر المفاوضات على أرض سلطنة عُمان لمعرفة مصير أمريكيين اختفوا في سوريا، تقول واشنطن إنهم سبعة، وفي مقدمهم الصحافي أوستن تايس المحتجز لدى النظام.
وتدرس إيران وميليشياتها والنظام وروسيا منذ أكثر من شهر الخطوات التي يمكن اتخاذها ضد أمريكا يكون من شأنها أن تُغيِّر المعادلة في سوريا. هي مرحلة حبس الأنفاس، قد لا تتعدى الشهرين أو الثلاثة. فمرحلة «الستاتيكو» التعايشية ما بعد الـ2019 وصدور «قانون قيصر» سواء في سوريا أو لبنان استنفدت كل مقوماتها وما عاد في الإمكان إطالة أمدها. ورهان «المحور» يرتكز عملياً على حصول انعطافة في المسار الحالي الذي يحكم العلاقة بين الأمريكيين والإيرانيين، انطلاقاً من الاقتناع السائد لديه بأن أمريكا لا تحتمل أن تذهب الدول الواقعة تحت نفوذ إيران إلى انهيار كامل، ذلك أن السقوط التام في الفوضى وتهشّم ما تبقّى من هياكل تلك الدول سيُشكِّل تهديداً على وضع إسرائيل. وينطلق هؤلاء من أن لا مشكلة لدى أمريكا في التعايش مع مصالح إيران وحلفائها ولكن لها مطالبها ومصالحها التي لا بدَّ من تلبيتها.
لا يلعب الوقت لمصلحة إيران الغارقة في أزماتها الداخلية ولا لمصلحة الدول الواقعة تحت نفوذها ولا سيما لبنان وسوريا اللذين شارفا على الانهيار الشامل. ففي لبنان، لا يبدو أن هناك فرصة حل في السياسة في المدى المنظور، ولن يكون بمقدور أي اكتشاف للنفط والغاز، إنْ حصل في غضون الأشهر المقبلة، أن يُغيِّر في أصل مسار الانهيار ولو أعطى الاكتشاف بعضاً من الدفع المعنوي أو ساهم في تحسين واقع لبنان على مستوى التصنيف الائتماني، إذ يحتاج إلى سنوات عدة قبل أن يبدأ الحصاد النفطي والغازي ومردوده على لبنان. وفي سوريا، بدأت الأرض تتحرَّك، ما سيضغط على نظام الأسد أكثر ولا سيما في المحافظات الهشّة.
ثمة مخاوف لدى النظام وحلفائه اليوم من أن يكونوا أمام محاولة فصل الجنوب السوري، وتكرار سيناريو «قسد» في الشمال والشمال الشرقي. يُدرك الأسد أنه في السويداء يُعاني سقوطاً أمنياً، ويتخوَّف من السقوط العسكري للنظام، ويدرك حقيقة وضعه في درعا، ويعلم أن خروجه العسكري من الجنوب السوري يعني خنقه وخنق إيران و«حزب الله» الذي يُعزِّز كل إمكاناته على تلك الجبهة مراهناً على أن تكون بديلاً لجبهة جنوب لبنان في وجه إسرائيل. بالنسبة لـ«محور إيران» فإن «مربض الفرس» في الصراع هو «قاعدة التنف» الأمريكية الواقعة عند تقاطع الحدود السورية مع الأردن والعراق، وهو الموقع الوحيد الذي تتواجد فيه القوات الأمريكية خارج الشمال السوري. فلو حصل أن انسحبت أمريكا من الجنوب، كما كان محور إيران يُمنّي النفس، لكانت الصورة مختلفة كلياً في الجنوب السوري. ومن هنا، ثمّة حديث في قلب «المحور» عن خيارات قد يذهبون إليها غير متوقعة لدى أمريكا، وهي التي تدفع بإدارة جو بايدن إلى كل التعزيزات العسكرية الأمريكية في إطار خطط دفاعية لا هجومية تحت ما يمكن تسميته بـ«سياسة الردع».
لا يعيش لبنان على وقع مشهد الترابط بين الواقعين السوري واللبناني وإطباق حزب الله على قراره، بل تعيش كل الدول الواقعة تحت نفوذ إيران على وقع الكباش بين طهران وواشنطن، والذي سيشتدُّ خلال الأشهر المقبلة قبل أن تدخل الولايات المتحدة في حماوة الانتخابات الرئاسية، ما سيعني أن لا حلول مرتقبة في أي من دول نفوذ المحور قبل الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر 2024 حيث ستتحدَّد على ضوئه هوية سيّد «البيت الأبيض». أكثر ما يمكن توقع حدوثه هو اختراق أمريكي – إيراني يسمح بـ«ترتيب ما» لتقطيع مرحلة انتظار الاستحقاق الأمريكي.