مطعم السوسي- قراءة في لوحة الفنان شوقي دلال/ بقلم عمر سعيد
مطعم السوسي
قراءة في لوحة المبدع شوقي دلال.
ليست الألوان ملك الأمكنة بالمطلق، وليست الريشة محكومة بالتفاصيل المكونة للقطة المصورة بالمطلق.
بل إن اللون ملعبه الأول والأخير روح المبدع، ومخيلته، وتقلباته النفسية.
فالمبدع لا شيء يحكمه إلا اللحظة الداخلية، المشغولة بالاشتعال، والتداخل اللا مرئي بين انفعلات تعبر أصابعه إلى ريشته ألوانًا، نراها، ندركها، من غير أن نفهم مباعثها إلا تأويلًا.
فما الذي دفع بالمبدع إلى ضربة ريشة هنا بيضاء، وأخرى هناك سوداء، لا أحد يمكنه التخمين، بمن فيهم المبدع نفسه.
لأنه يكون خلالها تحت سطوة الجمال، يفعل ما لا يعي في عوالم غير موجودة ولا مألوفة، إلا فيه.
ومهما قيل في فلسفة الألوان، وتمثيلاتها، فإن للألوان اختصارات، وتكثيفات لا تبلغها إلا عند سيلانها من أطراف ريشة المبدع نفسه، وبغير إرادة من عين خالقها.
لأن الألوان أثناء تمددها فوق اللوحة، هي ليست الألوان ذاتها قبل أو بعد ثباتها في العمل المتلقى.
بإمكان ألوان التشكيلي شوقي دلال أن تحيل المكان أمكنة، والتفاصيل تفصيلات لا متناهية.
ذلك لأن تدرج الحالات الداخلية له أثناء العمل وتناميها أوسع من أن تقاد من زاوية يمين اللوحة إلى يسارها، أو من أسفلها إلى أعلاها والعكس.
فكأنه يعبر جريانًا لا يتوقف من الانفعالات التي تتفجر في عوالمه الجوانية، ليصبها فوق اللوحة تحركات جمالية مكثفة.
لوحة التشكيلي دلال هذه لا يمكن قراءتها إلا من أسفل إلى أعلى لتنتهي بالأسفل الذي بدأت منه القراءة.
فمن أسود يتمزق اشتعالًا بدرجات الألوان النارية الممتدة بين الأحمر والأصفر والأزرق، وما بينها من تفاوتات، يتسلق التخيل متلقيها بحدة مدهشة، لا تقينا فعل الصدمة التي تحملنا إلى عوالم سفلية، خلت حتى من روادها البسطاء، لذا بدت المقاعد مطموسة، تختفي بعض أجزائها، لتختفي وظيفتها في المكان وعالم الواقع والحقيقة.
ولكن دون أن يثني ذلك الفعل الذي تجسد من خلال مستويات اللون الأبيض عن الاستمرار في الحياة داخل القسم الذي توسط اللوحة.
فقد بقيت إرادة العمل على تركيزها في ما تفعل، تتجاهل غياب النار كمؤشر أزلي أبدي على الحياة، وقد اختُصر حضورها في انتظار المقاعد المحاصرة بالظلام.
لم تحمل اللوحة في قسمها العلوي بريق التسويق والدعاية التي تسكن ألوان قارمات المحال، وما ذلك إلا لأن هذا العمل لم تؤثثه في ذاكرة المبدع دلال إلا النكهات والروائح التي حضرت في العمل عن طريق وجدان مسكون بصانع الطعمات، ومهندس العلاقة بين النكهة والزبائن، والأدوات التي لم تتأثر لا بالتطور التكنولوجي، ولا بالصعوبات الإقتصادية التي خلفتها الأزمات التي حلت ببيروت.
إن تذييل طرفي اللوحة بالأسود أسفلها والسماوي العفني أعلاها، لم يكن إلا دلالة على القيم التي يحيا لأجلها شوقي دلال والذي بدا في عمله هذا صانع محتوى من الطراز العميق وجدا..
لذلك أهمل وعن عمد تقاصي أطرافها من حيث التأثير، ليداني بنا في وسط اللوحة، ورغما عنا من الإنسان، والزمن والفعل والحياة التي تليق ببيروت.
عمر سعيد