عودة “داعش” في محاولة لإستعادة شرعية ميليشيات إيران بالمنطقة
يوم الخامس من تمّوز 2014، كان الظّهور العلنيّ الأوّل لزعيم تنظيم داعش الإرهابي إبراهيم بن عواد البدري السامرائي، المعروف بـ”أبي بكر البغدادي”. وذلك بعد “مُبايعته خليفةً للمسلمين” إثر اجتياح الموصل وأراضٍ شاسعة من العراق وسوريا و”كسرِ” ما أسماه المتحدث باسم التنظيم أبو محمّد العدناني بـ”صَنَم سايكس بيكو”. واشتهر مقطع الفيديو الذي صوّره على الشّريط الحدودي بين سوريا والعراق، مُتوجّهًا إلى الرئيس الأميركي يومها باراك أوباما قائلًا: «أيا بغل اليهود، خسئت».
مُرتديًا عمامة سوداء، و”مُقتدِيًا” بالنبيّ مُحمّد يوم فتح مكّة، خطب البغدادي بعد “فتحه الموصل” من على منبر الجامع النّوري الكبير، مُقتبسًا من خطبة الخليفة الرّاشد أبو بكر الصّدّيق يوم مبايعته كأوّل خليفةً للمسلمين: ” ابتليتُ بأمانة ثقيلة، ولّيت عليكم ولست بخيركم ولا أفضل منكم. أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم فإن عصيتهُ فلا طاعة لي عليكم”.
“الأمانة” التي أثقلت كاهل البغداديّ، كانت في الحقيقة مدخلًا واسعًا لإيران للسيطرة على العراق من خلال ميلشيات الحشد الشّعبي. يوم ركب قائد قوّة القدس قاسم سُليماني طائرته مُتّجهًا في رحلةٍ “إنقاذيّة” إلى بلاد الرّافدين، كانت الدّبلوماسيّة الفارسيّة تعقد اجتماعات مكوكيّة مع المجموعة الدّوليّة (5+1) استمرّت 18 شهرًا بين جنيف وفيينا ونيويورك ولوزان، لتوقيع “الاتفاق النّووي الإيراني”.
في يومٍ وليلة “لبِسَت” إيران ومن معها في “المِحوَر” عباءة “مُحاربة الإرهاب”. وتحوّلت الأنظار في العراق عن انتهاكات نوري المالكي ضدّ العرب السّنّة الذين وقفوا بوجه مخطط تقسيم البلاد، إلى قتال التنظيم الذي اجتاح الموصل – ثاني أكبر المُدن العراقيّة – ببضع مئات من المقاتلين، في مُقابل قوات رسمية قُدِّرَت يومها بـ3 فرق من الجيش والشرطة (ما بين 40 و50 ألف مقاتل) مجهّزة بأحدث ما أنتجته مصانع السلاح الأميركي. وفي سوريا، تغيّرت المُعادلة الدّوليّة من أولويّة تغيير النّظام الذي صار في الظاهر “مُحاربًا للإرهاب”، إلى أولويّة “القضاء على التنظيم الإرهابي”.
حتّى اليوم، لم يتبيّن السّبب الرئيسي لانهيار عشرات الآلاف من الجنود وأفراد الشّرطة الاتحاديّة أمام شرذمة من مقاتلي داعش، إلّا أنّ القيادة العُليا للقوّات المُسلّحة في بغداد هي حصرًا بيد رئيس الوزراء الذي كان يومها نوري المالكي، أمين عام حزب الدّعوة العراقي الموالي لطهران.
وفي لمحة سريعة لما سبق “سقوط” الموصل وصلاح الدّين والأنبار وبعض مناطق كركوك وسامرّاء وصولًا إلى تخوم بغداد، نجد أنّ المالكي كان يواجه ثورة سُنيّة في مُختلف المُحافظات تعترض على سياسته تجاههم وإقصائهم من الحكم على حساب خطّة التقسيم الثلاثي بين الشيعة والسّنّة والأكراد، والتي كان العرب السّنّة أشد المعارضين لها.
الحاصل، أنّ “داعش” أحدث أعجوبة قلّ نظيرها في التّاريخ. يوم صارت واشنطن وطهران في شبه خندقٍ واحد في “الحرب على الإرهاب” رغم تصنيف واشنطن لكثير من التنظيمات الموالية للنظام الإيراني على لوائحها للإرهاب. فكان حزب الله الذي وجّه بعض قيادييه ومقاتليه إلى العراق مُقاتلًا على الأرض تحت غطاء الـF16 الأميركيّة والعراقيّة.
اليوم، وبعد 5 سنوات من “القضاء على داعش” بجهود ضربات التحالف الدّولي وجهاز مكافحة الإرهاب العراقي والعمليّات المُشتركة، عاد التنظيم ليُطلّ برأسه نافضًا الغبار عن “عباءته”، تزامنًا مع تسلّم الرّئيس المُنتخب جو بايدن مقاليد الحُكم في واشنطن. وهو الذي كان يشغل منصب نائب الرئيس أوباما الذي ظهر داعش خلال ولايته ووُقّع الاتفاق النوّوي مع طهران، الذي يسعى الإيرانيّون والإدارة الدّيمقراطيّة الجديدة للعودة إليه… وكلّ على شروطه.
احتاج مُخرجو فيلم “عودة داعش” إلى مشهدٍ دامٍ لترويج العودة المُحتملة، فقام انتحاريّان بتفجير نفسيهما في منطقة ساحة الطيران بسوقٍ لـ”البالة” في العاصمة العراقيّة بغداد، ليحصُدا أرواح 38 شهيدًا ويصيبا 110 أشخاصٍ بجروح مُختلفة.
“المَشهَد السّاقط” في الجزء الثّاني من “عودة داعش” كان مُسارعة بعض الجهات العراقيّة الموالية لطهران، قبل لملمة أشلاء الانتحاريين من مسرح التفجير، للقول إنّهما يحملان الجنسيّة السّعوديّة، فيما يُعيد إلى الواجهة شريط “أبو عدس الشّهير”.
تسويق مسألة “الجنسيّة السّعوديّة” وهويّة المُنفّذيْن التي كانت بعض الأجهزة الأمنيّة العراقيّة على علم مُسبَق بهما ولم تُبادِر إلى وقف العمليّة بضربة استباقيّة، تطرحان السّؤال التالي: هل تعود “داعش” للعب دور الوساطة خلال المفاوضات النوويّة المُرتقبة بين طهران وواشنطن؟.
زعيم التّيار الصّدري السّيد مُقتدى الصّدر سارع إلى نشر تغريدةٍ على حسابه في تويتر غمزَ فيها من نواحٍ عديدة: ” لن نسمح للإرهاب أن يعود… إن كان هذا فعل الإرهابيين أم المُحتلّين أم الخارجيين أم الفاسدين”. والجدير ذكره أنّ علاقة الصّدر بطهران ليست في أحسن أحوالها منذ رفضه “التّدخلات الإيرانيّة” في الشّؤون العراقيّة، ودائمًا ما يشير إلى الأحزاب الموالية لإيران، التي تهيمن على السّلطة، بعبارة “الفاسدين”.
وهناك الإقالات السّريعة التي قام بها رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، الذي شغل منصب رئيس الاستخبارات العراقيّة قبل تولّيه السّلطة، وكان على رأس عدد من قادة الأجهزة الأمنيّة، جُلّهم من المقرّبين لطهران مثل مدير عام استخبارات ومكافحة الإرهاب بوزارة الداخلية “خلية الصقور” “أبو علي البصري” (خليفة أبو مهدي المُهندس) والمُقرّب من كتائب حزب الله العراقيّ. وكلّها أفعال تدلّ على أيدٍ إيرانيّة خفيّة نسّقت استفادت من عملية سوق “البالة” في ساحة الطيران.
وفي السّياق، أشارت مصادر أمنيّة عراقيّة لـ”أساس” إلى أنّ برقيّة سريّة للأجهزة المسؤولة عن أمن “قطاع الباب الشّرقي” صدرت منتصف الليلة التي سبقَت الانفجار، وحذّرت من نيّة انتحاريَيْن ينويان تفجير نفسيهما. وكانت “عمليّات بغداد” التي يُشرِف عليها مُقرّبون من الكاظمي تسعى لإحباط التفجيير”. وكشفت المصادر أنّ استهداف قاعدة فيكتوريا قرب مطار بغداد الدّولي ليل الجمعة – السّبت بـ3 صواريخ كاتيوشا كانت ردًّا من المليشيات على إقالة “البصري” من استخبارات الدّاخليّة.
هذا عراقيًا، أمّا على السّاحة السّوريّة، فصار “روتينًا يوميًا” خبر “الاشتباكات” بين الفصائل الموالية لطهران وبين تنظيم داعش في مناطق السّخنة والبادية السّوريّة ومحيط البوكمال. وهي مناطق يُسيطر عليها الحرس الثّوريّ. روتين يوميّ منذ نجاح بايدن في الانتخابات الرّئاسيّة، وعودة الكلام عن العودة للاتفاق النّووي.
تجدر الإشارة أيضًا إلى الضغط المتصاعد على التواجد الإيراني في سوريا، والانزعاج الرّوسي منه والذي قد تجد إيران بعودة داعش، ولو جزئيًا، حجّة لبقائها على الأرض السّوريّة و”تشريعًا” لميليشياتها المُتعددة الجنسيّات.
النتيجة، هي أنّ عودة الكلام عن الاتفاق النووي وسعي الإدارة الدّيمقراطيّة للتفاوض مع طهران يتزامن مُجددًا مع محاولات لإعادة انتاج داعش، التي يجد فيها النّظام الإيراني شمّاعة للضغط على الأميركيين، ولخلق دور مُستعاد يشرّع وجود الميليشيات الإيرانية في الشّرق الأوسط. تلك الميليشيات التي يتحدّث الأميركيّون عن طموحهم في البتّ بمصيرها ومصير البرنامج الصّاروخي في أي محادثات نووية مُقبلة مع طهران.
المصدر: اساس ميديا