الفجوة النقدية لدى مصرف لبنان تبلغ 44,8 مليار دولار
ما تحتاجه الحكومة في البيان الوزاري لنوال ثقة مجلس النواب، ليس رؤية الحكومة وخطتها لجبه الانهيار. مصارحة الشعب بالحقيقة بالغة الأهمية. كتبنا هذا الكلام قبل شهر لأنه لا يمكن المريض إخفاء مرضه. وهذا ما تمّ التدليس عليه فترة طويلة، لاسيما بعد أن بدت إمارات المرض في 2016 توحي بتحوله آفة في طريق الانهيار. مع ذلك لم يتغير شيء جوهري في الخطاب التقليدي الباهت الخبيث. كانت نذُر الخوف الكبير المالي، والنقدي، والمصرفي تتجمّع على سطح الأزمة. وحين بدأنا احتساب النمو بأعشار الواحد في المئة 2017 – 2018، وبلغ التسيب السياسي أوجّه في تلك الفترة، بدت البلاد على طريقة “سيري والرب يرعاك”. وفي نهاية الطريق لم يعد لبنان قادرًا على معاندة قانون الجاذبية على ما قيل. أذعن لكل القوانين الطبيعية والوضعية فكان السقوط الكبير الذي لم يستكمل انحداره بعد، ولا تداعياته الوخيمة تظهّرت كاملة. الأزمة بالأولوية مصرفية، مديونية الدولة، نقدية واجتماعية. المال المنهوب قرينة الفساد وصنوه وترنيمة الفاسدين. بتّه يحتاج إلى بناء نظام سياسي آخر من آدميين يحبون الوطن وناسه ويتفانون من أجلهم.
أي ثقة للحكومة والمصارف؟
البلد والشعب لا يعولان كثيرًا على ثقة تحظى بها الحكومة من مجلس النواب. بل من الشعب نفسه. بالأولوية نفسها أيضًا، تحتاج المصارف إلى اعادة رسملة من جديد. الخطوة الإجرائية الأولى، بيان يصدر بهذا المعنى عن المصارف أن “بدأنا بتطبيق زيادة الأموال الخاصة بضعة مليارات الدولار الأميركي. الخطوة الثانية في الطريق وبأجل محددّ”. أقلّه حزيران 2020 كي تفي 20 في المئة زيادة وفق تعميم مصرف لبنان وتعاميم أخرى ملازمة ضرورية. الخطوة الثانية كي تكتسب الأولى صدقية في مقام الثقة، رفع القيود عن حقوق المودعين في المصارف، لاسيما أصحاب الودائع الصغيرة والمتوسطة ويشكلون الغالبية الساحقة من الحسابات المصرفية فوق المليون حساب. وبرمجة التحويلات إلى الخارج بحسب الحاجات الضرورية، ولزوم القطاعات الانتاجية والاستهلاك. غير ذلك نوصد النوافذ في وجه التدفقات النقدية الخارجية حتى من اللبنانيين العاملين في الخارج. يستحيل تخفيف الضغوط على المصارف وتلطيف التوتر الاجتماعي واصطناع ثقة بالحدّ الأدنى من دون تلك الاجراءات. الحلول البعيدة المدى، كدمج المصارف، أو تحويل حقوق المودعين أسهمًا فيها ليست ميسورة قبل استعادة الثقة. وكما أشرنا في مقالة سابقة، مصرف لبنان غير قادر على توفير قرض ميسّر للمصرف الدامج كي يتحمّل أعباء المصرف المدموج، كما يتيح له قانون دمج المصارف. والقرض الحافز الأساسي الذي أسهم في عمليات دمج سابقة لعدد محدود من المصارف في ظروف ليست متاحة في الوقت الراهن. والدمج مكلف جدًا، تكلفة الأزمة على أموال المصارف الخاصة وملاءتها وسيولتها.
أمّا سعر صرف الليرة اللبنانية على أهميته، يبدو أنه أخلى الساحة كليًا لمواجع أكثر أهمية، تتصل بمركز مصرف لبنان المالي، ووضعيته من العملات الأجنبية القابلة للتصرف. وهي في كل الأحوال تعود إلى المصارف. ويمكن أن نستنتج استخدام حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إيّاها لالتزامات سيادية واستهلاكية استراتيجية فقط، بأنها أموال اشتراها المصرف من المصارف التجارية بفوائد باهظة وله الحق باستثمارها وفقًا لمقتضيات مصلحة الدولة. إذ أن قانون والتسليف يتيح لمصرف لبنان التعامل مع المصارف التجارية بشروط المصرف التجاري. ولو كانت الغاية عدم توخي الربح. أمّا أصل حقوق المصارف لديه “فمحفوظة مع فوائدها إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا”! نحن في صلب معادلة السقوط الكبير. المصارف تحتاج إلى استعادة توظيفاتها من مصرف لبنان لسداد حقوق المودعين. والمصرف يؤثر حيازته العملات للوفاء بمصلحة الدولة العليا والسلع الأساسية. واضح أن “نشيد الاحتياط النقدي” لدى المصرف شديد الشبه للأسف بــ”النشيد النقدي” واستقرار سعر الصرف. والإثنان في رباط واحد.
الفجوة النقدية لدى مصرف لبنان هي مربط الفرس في القيود على سحوبات المصارف والتحويلات الخارجية من المصارف ومصرف لبنان. المعلومات الأولية تفيد أن الفجوة تزيد عن 44 مليار دولار أميركي. هذا ما أمكن استخراجه مرّة أولى من تقرير دقيق للموجودات الخارجية لدى مصرف لبنان في 31 كانون الثاني 2020 حصلنا عليه وأظهر النتائج الآتية: الموجودات الخارجية بما في ذلك اليوروبوندز والسندات الدولية 36,659 مليار دولار أميركي. محفظة اليوروبوندز 5,700 مليارات. موجودات الخارجية من دون اليوروبوندز 30,959 مليارًا. عملات أجنبية – توظيفات نقدية (30-11-2019) 30,155 مليارًا. أوراق مالية دولية خارج محفظة اليوروبوندز (30-11-2019) 2,254 مليار. توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان بما في ذلك شهادات الإيداع والاحتياط الإلزامي 82,765 مليارًا تمثل التزامات مصرف لبنان الإجمالية للمصارف بالدولار الأميركي. باستخراج 30,959 مليارًا موجودات مصرف لبنان في 31-1-2020، يكون الحاصل 51,806 مليار دولار أميركي. تتراجع الفجوة باحتساب نحو 7 مليارات دولار أميركي حصلت عليها المصارف من مصرف لبنان بفائدة 20 في المئة، تتراجع الفجوة إلى 44,806 مليار دولار أميركي.
حسم أزمة المديونية تحتاج إلى قرار. كلّما استؤخر كلّما ازدادت التكلفة. لو كان سداد مليار و200 مليون دولار أميركي استحقاق اليوروبوندز في 9 آذار المقبل واردًا ليعلن الآن. لكن في النهاية، خيار “الهبوط ناعمًا” في غياب دعم مالي خارجي ليس متاحًا. وخيار صندوق النقد الدولي القسري الآن أفضل من بلوغ مرحلة التوقف عن السداد. فالدين العام إلى الناتج سيقفز بقوة في 2020 طالما أن عجز الموازنة متوقع من رقمين. والنمو السالب من رقمين كذلك، والتضخم يتفلت من عقاله.
المال الأسود المقيم!
بأرجوفة التحويلات الخارجية نختم. أولًا، التحويلات ليست إلى سويسرا فقط. وقد بدأت في مطلع السنة حين استشعرت الأوليغارشيا الأزمة. والتحويلات محميّة بالقوانين والدستور. ثانيًا، إذا كانت الشكوك تتعلق بتحويلات لسياسيين مشكوك في نظافة أموالهم لاستعادتها من الخارج، فهذه تفتح أبوابًا لاتهام المصارف اللبنانية التي تمّ التحويل من خلالها بتبييض الأموال. ثالثًا، لماذا كل هذه الضجة على التحويلات المشتبهة لسياسيين، وكأن أموال السياسيين المقيمة التي لم تحوّل أنظف من تلك التي حُولت. لنسترجع المقيم من الأموال المشتبهة في الداخل. أمّا إذا كان كبار مساهمي المصارف والمديرين حوّلوا المليارات وحجبوا الحقوق عن أصحابها فالقضاء محراب العدالة. لنفترض.. وليبُح كبار المصرفيين عندها بأسماء عملائهم من السياسيين الفاسدين. وقد جنوا أموالهم من الخزانة العامة المفلسة سنوات طوالًا. ووضعوا أيديهم على إدارات المؤسسات العامة ومصالح الدولة. وسمسروا بالمشاريع الفاشلة. وما انفكّوا يرفلون بالنقيصة والرياء.
عصام الجردي – المدن