تحت المجهر

سياسيُ التعصّب والعنصرية يأخذ لبنان مخموراً إلى حتفه

منير الربيع – المدن

من أساسيات السياسة بعلومها وفنونها، أن تتكامل مع الاجتماعيات، فلا سياسة بلا مجتمع، ولا مجتمع بلا سياسة. وللصواب في بناء تحليل سياسي، لا بد من دراسة وافية للواقع الاجتماعي.

ولبنان عينة وافية لما طرحه مؤسس علم الاجتماع السياسي ابن خلدون، في عدم فصله بين الحالة الاجتماعية والحالة السياسية. وفي قوله إن الأزمات تتحول إلى نكات، أصاب ابن خلدون، قبل مئات السنين، المجتمع اللبناني الراهن. كأنه عرّى بدقّة بعضاً من حال النكران التي يعيشها اللبنانيون. فهو كتب: “إذا رأيت الناس تكثر الكلام المضحك وقت الكوارث، إعلم أن الفقر قد أقبع عليهم، وهم قوم بهم غفلة، واستعباد ومهانة، كمن يساق إلى الموت مخموراً”.

التكاذب وغربة العاقل
تكاد هذه الجملة تكون الأدق وصفاً للادعاء اللبناني في التغلّب على المشاكل والهموم، بالضحك واللامبالاة. وفيها تعرية لمجتمع لا يعيش إلا على التكاذب والانتصارات والانجازات الوهمية. وهذا ينطبق بقوة على حال المجتمع اللبناني، التي يختصرها اللبنانيون تجميلاً بـ”حب الحياة” أيام الحروب، والسهر على وقع الانفجارات أو القصف. ويمثّل هذا نوعاً من النكران، والهروب إلى الأمام، بدلاً من مواجهة المشكلة لمعالجتها. ولا يقتصر ذلك على حب الحياة في زمن الحرب، بل يطال الجوانب الاقتصادية والمعيشية والمالية والبيئية.

لا أفضح من حديث المسؤولين اللبنانيين عن الانهيار، فيما هم يتبارزون في تسجيل الانتصارات كل في سجّله، مدّعياً أنه المنقذ. لا عناء في إعلانهم عن ترهل الدولة وانهيارها. وهذه الحال حسب ابن خلدون، تُكثِرُ من “المنجمين والمتسولين والمنافقين والمدعين. ويكثر فيها المتسيّسون والمدّاحون والهجّاؤون وعابرو السبيل والانتهازيون. فيضيع التقدير ويسوء التدبير. ويختلط الصدق بالكذب”.

ومن أسوأ ما ينطبق على اللبنانيين أيضاً، لجوئهم إلى طلب الحماية من طوائفهم. فذلك مؤشر على سقوط مجال الأفكار كلها وإنتاجها، فيعلو الباطل، وتعمّ الشائعات، وتزداد غربة العاقل، ويصبح الانتماء إلى القبيلة أشد التصاقاً، وإلى الأوطان ضرباً من الهذيان. وهذا واقع الأساسيات اللبنانية التي تتجلى اليوم في تنامي الفرز الطائفي بين الجماعات.

فيدّعي أحدهم الحرص على حقوق المسيحيين، وآخرهم الدفاع عن حقوق ومكتسبات السنة أو الشيعة. وأبرز مثال على ما يتعدّى السياسة، موقفٌ أطلقه البطريرك الماروني بشارة الراعي قبل أيام، موجهاً سهام اتهاماته إلى شعبة المعلومات وقوى الأمن الداخلي، بشكل فاضح يدعو إلى استشعار الأهوال، متهماً الجهاز الأمني بفبركة ملفات للبنانيين من فئة واحدة. يمثّل هذا الموقف أبرز الأمثلة على حال الالتصاق بالقبيلة. وغالباً ما يكون نتاج صراع اجتماعي أصداؤه سياسية. صراع ينمو ويكبر في تعميم مفهوم التعصب، بهدف شدّ أزر الجماعة على المعنى القبلي والطائفي. وما أطلقه رجل الدين لا ينفصل عما تعرّضت له “مشروع ليلى”، إذ فضحت ردود الفعل على الفرقة الفنية حقيقة التعصب الاجتماعي، الذي لا يختلف بين فئة وأخرى، لكنه ينطلق في أساسه من مبدأ التمييز بين هذه الفئة والفئات الأخرى. وهو نتاج منطق سياسي أطلقه سياسيون حول التفوق الجيني أو العرقي، الذي يقوم على نبذ الآخر والاستعلاء عليه.

الضعف والوهن
ومن يقود هذا المسار التعصبي والاستعلائي، هو من يثبّت وجهة نظر ابن خلدون التي اقتبسنا منها أعلاه. فطالما النظام طائفي، يستمر الناس في الدفاع عن حقوق طوائفهم ولا نهاية لهذا بغير الوصول إلى دولة مدنية. فالدفاع عن حقوق الطائفة، نتاج مباشر لحال تآكل أفكار الناس، وإصابتهم بالضعف والوهن وفقدان الأمل بأي طرح جديد، وغياب أي مشروع يمكن البناء عليه لتحقيق التقدّم. هذه الحال، تنتج تعصباً اجتماعياً طائفياً أقوى، لدى الجماعات على اختلافها. فيتحلل مفهوم الدول، ويصبح رجل السياسة في حاجة إلى رفع صوته أكثر، لـ”شدّ العصب” وتقديم خطاب يستفز الآخرين، ويدغدغ مشاعر المريدين والمؤيدين، عازفاً على وتر حساس لديهم في حالات الفراغ التي يعيشيونها، ويكونون في حاجة إلى “قائد ملهم أو مخلّص” هو الذي ينتشلهم من الهوان والإحباط، فيكون البديل تعصب الخطاب وعصبية الجماعة، على حساب الدولة. ولعلّ هذا النهج يكرّسه قائد سياسي أوحد، أو زعيم لا بديل منه.

“الحقوق المهدورة”
وفي غمرة الدفاع عن حقوق الطائفة،  يجري تعطيل كل ما تبقى من مؤسسات، ويسقط الزعيم أو القائد رؤاه على المجتمع. وهذا ترجمته اللبنانية خطاب “استعادة الحقوق المهدورة والصلاحيات” إلى لعبة التوازن الطائفي، التي تذهب بالصراع إلى أفق آخر، وقد وصل أخيراً إلى إعادة تفسير الدستور من خلال المادتين 80 و95. ولا مشكلة لمتابعي هذا المسلك في تعطيلهم عمل المؤسسات، من مجلس وزراء أو مجلس خدمة مدنية أو الإدارات، طالما لم تحقق لعبة العصبية نتائجها المرجوة.

وعندما يتلقى أمثال هؤلاء ردّاً بأن الدستور لا ينص على المناصفة في فئات الوظائف الدنيا، يهددون بأن لديهم خيارات أخرى، في حال عدم احترام المناصفة. ولا شك في أن هذه الخيارات تنطوي على العودة إلى نغمة قديمة – جديدة: الفيدرالية مثلاً، والتي تكون في مجتمع مثل لبناني أبرز تجليات التعصب والالتصاق الشديد بالقبيلة أو الطائفة، على حساب الدولة. ومن تكون هذه الفكرة راسخة في خلفية تفكيره، لا يمكن أن يتصرف على أساس وجود دولة.

العدّ والهد
وهذا المنطق يقود إلى معادلة أساسية: منطق العدّ يقود إلى الهدّ، على عكس ما يطالبون به. ووقف العدّ، لا يمكن أن يتحقق بدون وقف الهدّ. هدّ أعمدة المصالحة بين اللبنانيين، هدّ الاستقرار والوحدة الوطنية، وهدّ الدستور والمؤسسات والقضاء، والتنسيق بين الأجهزة الأمنية التي تُحرّض على التنافس في ما بينها. وفي حال توقف الهدّ، يمكن للمرء أن يتوقف عن العدّ. والمقصود بالعدّ هنا، ليس التعداد البشري أو السكاني، بل عدّ التجاوزات كلها وإحصاؤها، والتي لا تؤسس إلا لتعزيز خطاب العنصرية بين الشرائح الاجتماعية اللبنانية. وتتجلى العنصرية اللبنانوية في أبشع صورها ضد اللاجئين السوريين والفلسطينيين.

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button