ما خاب من أعطى وجهه للنور . (بقلم عمر سعيد)
ما كنت أعرفه إلا من خلال الإشاعات التي كانت تطلقها ألسن التضليل في محيطي ؛ الذي كان معزولأ وقتها إلا عن تلك الإذاعات التي بقيت تحت عباءة صوت العرب ..
مجرم سفاح ، بموته تعود فلسطين عربية وتسقط كل المؤامرات ضد العرب والعروبة ..
وكنت قد وعيت على عدة طرق اتجهت شمالا لا جنوبا لبلوغ القدس.
من حوش الأمرا إلى بكفيا ، فعنطورة وصولا إلى جونية .
فجأة أعلن زجه في السجن ، وتوقعنا جميعأ أن وحدة الأمة العربية قد بدأت ، كيف لا وقد كانت أكبر إنجازات البعثيين في سبيل تلك الوحدة هي التخلص من سمير جعجع الذي أعاقها منذ نشأة هذا الحزب عام ١٩٤٧ مع احتمالية أن يكون الرجل قد ولد بعد ذلك التاريخ بسنوات .
قلنا أيامها سيرتاح عبدالناصر أمين القومية في مثواه رحمه الله ، وقد يمر بنا صلاح الدين وبعض من قادة الأمة التاريخيين مهنئين بعد هذا الحدث الذي انتظرناه قرونا ..
لم يتغير شيء ، بل ازدادت ضراوة رقيب المخابرات في كل من مركز معمل البصل ومخفري مجدل عنجر وجب جنين وبيادر العدس ..
وازدادت توقيفات هذه المخافر للعديد من شبابنا !
ما السبب الذي يجعل شبابنا في سجون موازية لزنزانة سمير جعجع ؟!
وإن كانت تهمته العمالة وتعطيل تحرير القدس ، فما تهم أبنائنا الذين كان معظمهم من القوميين العرب والشوعية ؟!
كان لا بد أن نسقط كل الملاءات التي أسدلت على مداركنا وأعيننا ، فخربة قنافار وصغبين وعميق وعانا قرانا كما كامد اللوز والصويري والسلطان يعقوب وغيرها قرانا ..
ولم تشهد هذه البلدات بضفتيها أية تميزات بين حالات التوقيف التي شهدتها، فقد التقى ابناؤنا القوميون إخوتهم القواتيين في سجون بعث الأسد .
وكان لا بد من إطلاق دعوة لإعادة قراءة ما يحصل ..
لقد كان توقيف سمير جعجع المحرض الأشد لاطلاق هذه الدعوة !
فإن كانت طريق القدس جنوبا ، فلمَ يتم إرسال الدبابات شمالا ؟
وإن كان الجنوب أرض المعركة فلمَ تقصف المدفعية السورية البحصاص وطرابلس وبعبدا وجونية وظهور زحلة والدير الأحمر وغيرها ؟!
وكان لا بد أن يستفيق فينا وعي الوطن.. حتى ادركنا أن المعركة ليست بين هلال وصليب ، ولا بين مؤمن وكافر .
لقد كانت معركة ابتلاع الوطن ، وكان أخر ما يجب ابتلاعه لهضم هذا الوطن ابتلاع سمير جعجع ..
لكن هذا الرجل كان أقسى ما تبقى من وطن ، استنزفته مشاريع قومجية العرب ، ولم تكن مسألة ابتلاعه وهضمه هينة كما توقع الاسد ..
جلس جعجع في زنزانته ووجه إلى النور أبداً ، ولاه مرة صوب الشهداء يعدّهم في ذاكرته وروحه منتظر اللحاق بهم من موقعه أو العودة لإتمام ما بدأوه معه .
وأخرى يولي وجهه صوب الكتاب يعمد بنار الفكر المقدسة رسالته الإنسانية الوطنية ، وتارة يوليه صوب صليب علقه إلى جدار زنزانته، يصلي لخلاص وطنه لا بدنه .
وطوراً يوليه صوب شمس صنين التي فتح عينيه على نورها ولمعان الثلج على اكتاف جبل لا يشيخ .
لقد خرج جعجع من زنزانته روحا وفكراً سَكَنا كلَ الذين بحثوا عنه من رفاق وابناء الوطن قبل أن يخرج جسداً في ٢٦ تموز ٢٠٠٥ .
خرج حرا من سجنه لأنه دخله حراً..
هكذا حال الرجال الكبار عبر التاريخ ، يقاتلون بثباتهم وصلابة قناعاتهم وجلوده العارية وإن طال عتم الزنازين..
فعلها جعجع لأن سقراط فعلها قبله بقرون لأجل ما آمن به..
فعلها جعجع لأنه كان يرى ثبات يسوع المحبة فوق خشبه على الرغم من الدم الذي يسيل منه منذ اكثر من ألفي عام ..
فعلها جعجع لأنه سمع صوت يوسف في جبه قبل ان يجلي عن مصر سنينها السبع العجاف.
فعلها جعجع لأن جدار زنزاته لامس جدار زنزانة نلسون منديلا الإنسان فعرف ظلام الظلم من رحم الظلام.
فعلها جعجع لأن من يعطي وجهه للنور سيظل يبصر النور ، فما خاب من أعطى ظهره للظلام .
جعجع أنت مدرستي النضالية التي أتعلم منها .
عمر سعيد