أضرار تسريب برقية “اللقاء مع ساترفيلد” ومنافعه
نبيل الخوري – المدن
“رب ضارة نافعة”. هذا القول المأثور ينطبق اليوم على مسألة تسريب البرقية الدبلوماسية التي تروي تفاصيل لقاء وفد نيابي لبناني مع مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى بالوكالة، دايفيد ساترفيلد، منتصف شهر نيسان الماضي في الولايات المتحدة.
فخ الانفعال
التسريب يلحق أولاً أضراراً بسمعة الدبلوماسية اللبنانية على الساحة الدولية. يظهرها بوصفها مؤسسة غير قادرة على احترام الأصول والأعراف التي تقضي بأن المجالس بالأمانات. الدبلوماسيون الأجانب ووزراء خارجية الدول، بشكل عام، سيتعاملون بحذر، من الآن فصاعداً، مع متحدثين لبنانيين لا يضمنون عدم تسريب محاضر اجتماعات مخصصة لمفاوضات يجب الامتناع عن كشف تفاصيلها، حرصاً على نجاحها في النهاية. أما الدبلوماسية الأميركية، على وجه الخصوص، فستعتبر أن نظيرتها اللبنانية ليست محل ثقة، حتى وإن كان المحتوى المسرّب لا يتضمن معلومات بالغة السرية أو خطيرة.
لا يتوقف الأذى عند هذا الحد. قيام موظف مجهول بتزويد صحيفة لبنانية بتقرير دبلوماسي، كشف أيضاً عن خللٍ يشوب أداء القائمين على الدبلوماسية اللبنانية. تبين أن هؤلاء، شأنهم شأن جميع المسؤولين السياسيين اللبنانيين، يتصرفون أحياناً على أساس الانفعال، أو يسقطون في فخ الانفعال، بدلاً من التحلي دائماً بالدم البارد وباللباقة.
حق وباطل
يتعلق الأمر بقرار وزير الخارجية، جبران باسيل، الاستعانة بوحدة تابعة لجهاز أمن الدولة للتحقيق مع الدبلوماسيين والموظفين في الوزارة بشأن التسريب، والتي انتشرت في محيط مبنى الوزارة في الأشرفية بأسلوب مثير للجدل. هذا القرار، بغض النظر عن حيثياته القانونية والدستورية، بدا في الشكل وكأنه يندرج في إطار رد فعل انفعالي أو على الأقل غير دبلوماسي. يمثل ذلك مفارقة لأن وزارة الخارجية يجب أن تكون قدوة للآخرين في أصول التصرف الدبلوماسي الذي تفتقده اليوم الساحة السياسية اللبنانية بجميع مكوناتها الحزبية. طبعاً، لا بد للحكومة أن تتخذ التدابير القانونية اللازمة للمحاسبة على التسريب، ولإعادة تلميع صورة الدبلوماسية اللبنانية أمام حكومات الدول الأجنبية، وذلك من خلال التأكيد على أنها مؤسسة منضبطة. لكن شكل التحقيق من أجل ضبط الوضع يعطي انطباعاً بأن المسألة هي مسألة حق يراد به باطل.
اليقين الأميركي
في المقابل، لا يمكن تجاهل منافع تسريب محضر الاجتماع بين الوفد النيابي اللبناني وساترفيلد. بمعنى أنه كشف للعيان عن رسالة أميركية مزدوجة، مفادها أن واشنطن تتمسك من جهة بموقفها ـ المعروف أصلاً ـ حيال النزاع بين لبنان وإسرائيل على الحدود البحرية، وتستبعد نجاح أي وساطة أخرى، غير أميركية، لحل هذا النزاع من جهة ثانية.
يُستشف ذلك من خلال ما ورد في البرقية المسرّبة عن عدم استعداد واشنطن لرسم خط جديد بدلاً من الخط الذي رسمه الموفد الأميركي فريديريك هوف، عام 2012، ومن خلال ما نسب لساترفيلد من كلام جاء فيه أنه “يظل ممكناً لكلا الطرفين (لبنان وإسرائيل) تكليف طرف ثالث برسم الحدود إن وُجد”، وأنه “إذا وجدتم دولة/جهة أخرى قادرة على القيام بالوساطة فاذهبوا إليها”. هذا الكلام الموجه إلى الجانب اللبناني، يعكس قناعة أميركية، أو بالأحرى يقيناً أميركياً، بأنه حين تكون إسرائيل مصممة على عدم تقديم أي تنازل، حتى وإنْ كان موقفها مخالف للقانون الدولي، وحين تكون الولايات المتحدة عازمة على تغطية هذا الموقف، فإن أي لاعب دولي آخر لن يقدر على انتزاع التنازل من الإسرائيليين أو على إقناعهم به.
انطلاقاً من هذا المعطى، ليس أمام اللبنانيين من خيار، وفق وجهة النظر الأميركية، سوى القبول بـ”خط هوف” الذي يمنح لبنان نحو 500 كيلومتر مربع من المنطقة البحرية المتنازع عليها مقابل 360 كيلومتراً مربعاً لإسرائيل، من أصل مساحة كاملة يبلغ مقدارها 860 كيلومتراً مربعاً.
الأوهام
من حسنات البرقية المسربة إذاً، أنها زوّدت اللبنانيين بمعطيات تجنبّهم الوقوع في أوهام التعويل على وساطة روسية أو فرنسية أو أممية، لحل النزاع على الحدود البحرية مع إسرائيل. وحدها الولايات المتحدة قادرة على تأدية دور الوسيط في مسألة ترسيم حدود المنطقة البحرية النفطية، بوصفها مسألة استراتيجية في حسابات كل من الأميركيين والإسرائيليين. وهؤلاء لا يُدخِلون روسيا كطرفٍ في وساطة حول مسألة معينة، إلا إذا كانت تستطيع أن تحصّل لهم مكاسب محددة، وإذا كانوا مستعدين أساساً لتقديم تنازلات. والحال أن روسيا عاجزة عن إعطائهم ما يريدون في لبنان، لأن الأمر يتعلق بملف سلاح حزب الله، الذي تتحكم به إيران حصراً. وفي ما يتعلق بـ”خط هوف”، فهناك على ما يبدو نيّة أميركية ـ إسرائيلية مشتركة بتكريسه كأمر واقع، على غرار ما هو حاصل في بقية الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة، وذلك بموافقة روسية ضمنية، أو على الأقل في ظل غض طرف روسي عن هذه السياسة التي تنتهك سيادة لبنان.