تحت المجهر

هذه هي الإجراءات التقشفية.. تهيأوا للعصيان

كثر الحديث في الفترة الأخيرة عن إجراءات قاسية، وتدابير غير شعبية. واشتدت معه مروحة اللقاءات والمشاورات في ما بين الحلفاء حيناً ومع الخصوم أحياناً، لحشد أوسع تأييد لتدابير تقشفية، تترافق وموازنة العام 2019، أقل ما يقال فيها أنها “وقحة” وجائرة.

لم يتجرأ سياسي واحد على البوح بماهية تلك الإجراءات التقشفية، خوفاً من تراجع جماهريته التي احتشدت عام 2017، حين تسابق السياسيون أنفسهم على تبني إنجاز سلسلة الرتب والرواتب، وجني انتصارات وهمية على حساب خزينة الدولة، العاجزة أصلاً بسبب فشل إدارتهم للدولة، بأمها وأبيها، بما فيها القطاع العام.

يحتمي السياسيون خلف مشروع قانون موازنة العام 2019، الذي نال مباركة غالبية الأقطاب إن لم نقل جميعهم. نال موافقتهم على إجراءات تقشفية قاسية على ذوي الدخل المحدود قبل غيرهم، بخلاف ما يدّعون بأنها تستثني الفقراء وذوي الدخل المحدود.

قوافل المهوّلين
وقبل أن يصل مشروع قانون موازنة العام 2019، إلى طاولة مجلس الوزراء، انطلقت قوافل المروّجين للإجراءات القاسية، والمهوّلين من انهيار حتمي للدولة ما لم “تُخفض رواتب القطاع العام”، بهدف تسهيل العبور الآمن للإجراءات والحد من تداعياتها، وربما للتمهيد أيضاً لإجراءات ضريبية يرجّحها البعض.

وقد تصدر قوافل المروّجين وزير الخارجية جبران باسيل، الذي نسي أو تناسى مزارب الهدر والإنفاق في قطاع الطاقة، تحت رعايته على مدار عشر سنوات. ونسي جحافل المستشارين الذين رافقوه في وزاراته وتتكلّف عليهم الدولة (حتى اليوم) نحو ملياري ليرة سنوياً. ونسي أيضاً دعاوى التحكيم الناتجة عن تعثره في تطبيق القوانين في وزارة الطاقة. ونسي صالونات الشرف التي يفتحها على حساب الخزينة العامة، في غالبية مطارات العالم التي يجوبها، وأقلها تكلفة تتجاوز 10 آلاف يورو.. نسي كل ذلك، وقرّر الخوض في غمار الشأن المالي من خارج وزارته، المعنية بالشؤون الخارجية، وفي التبشير بخفض الرواتب أو الإنهيار.

قد تكون بعض الإجراءات التقشفية قد حسمت، إلا أن رفض الشارع لها بات حتمياً، ونظراً لعدم قانونية الرجوع عن بعض مكتسبات سلسلة الرتب والرواتب، وعدم دستورية منطق “وضع اليد على مكتسبات الناس”. بات العصيان المدني أمراً مشروعاً. وهو ما يتجه إليه العاملين في القطاع العام، ما لم تكف الدولة عن محاولات التسلل إلى جيوبهم.

إجراءات مرتقبة
تتصدّر الإجراءات التقشفية التي يدّعون استثناء الفقراء منها، حسب مصادر “المدن”، خفض رواتب القطاع العام بما فيها العسكريين، التي تفوق 3 ملايين ليرة، بنسب تتراوح بين 10 و20 في المئة بشكل تصاعدي، في مقابل ذلك سيتم خفض 20 في المئة من رواتب النواب ومخصصات الوزراء. وقد بلغت بهم الوقاحة أن يوحّدوا معايير الإجراءات التقشفية بين السارق والمسروق.

كما ستتناول الإجراءات بشكل أساسي إلغاء التدبير رقم 3 في المؤسسات الأمنية، وخفض البدلات، كالتعويضات والمنح المدرسية وحجم التغطية الصحية وإلغاء ساعات العمل الإضافية والمكافآت وبدلات السفر، وغيرها من المكتسبات الخارجة عن أساس الراتب.

وإذ علّق المصدر بالقول “إن الراتب محمي بالتقديمات الإجتماعية ومن دونها لا معنى له”، دعا الدولة إلى معالجة فائض العدد في مجلس النواب وفي مجلس الوزراء، بما يتناسب وحجم البلد، لافتاً إلى ضرورة إعادة هيكلة القطاع العام، وسحب “أزلام” السياسيين ومحسوبيهم من المؤسسات العامة، ووقف السمسرة والصفقات الفاسدة.

لا يمكن وصف الدولة التي تستسهل المس بحقوق مواطنيها سوى بـ”الفاشلة”. فلا يرى سياسيوها بالمواطنين سوى زبائن، يتحيّنون الفرصة للإنقضاض على ممتلكاتهم وحقوقهم. فلا همّ لديهم سوى القبض على زمام السلطة فقط والإستئثار بها.

تقشف “مخالف”
يستسهل السياسيون عملية التقشف، غير آبهين بمخالفتها القانون. وقد ذكّر أستاذ القانون الدستوري والقانون الإداري في المعهد الوطني للإدارة، الدكتور عصام اسماعيل، بأن المجلس الدستوري أقر مبدأ يقضي بأن “المشترع عندما يسن قانوناً يتناول الحقوق والحريات الأساسية، فلا يسعه أن يعدل أو أن يلغي النصوص القانونية النافذة، الضامنة لهذه الحريات دون أن يحل محلها نصوصاً أكثر ضمانة أو تعادلها على الأقل فاعلية وضمانة. بمعنى، أنه لا يجوز للمشترع أن يضعف من الضمانات التي سبق أن أقرها بموجب قوانين سابقة، لجهة حق أو حرية أساسية، سواء عن طريق إلغاء هذه الضمانات دون التعويض عنها، أو بإحلال ضمانات محلها أقل قوة وفاعلية”. واستناداً إلى هذا المبدأ، فإن التعويضات والرواتب، المقررة بموجب قانون، لا يمكن إنقاصها تحت أي ذريعة كانت.

إجراءات مقترحة
في حين تتجه الحكومة إلى قنص بعض مكتسبات القطاع العام، مقابل ما لا يزيد عن بضعة ملايين من الدولارات، يرى خبراء أن خفض الفائدة على الدين العام بنقطة مئوية واحدة (1 في المئة) سيساهم بخفض العجز بنحو 800 مليون دولار، لاسيما ان ثقل عجز الموازنة يعود إلى خدمة الدين العام الذي يفوق 32 في المئة من حجمها.

وإن كان لا بد من إجراءات إضافية، فلتُفرض الضرائب التصاعدية، ولتوقف الدولة التعديات على الأملاك العامة، وتحصل غراماتها. ولتُلغى عقود إيجارات الأبنية غير المبررة، وتلغى الصناديق السوداء والمخصصات السرية للسلطات الدستورية والأمنية. وليتم وقف الإنفاق على تجديد أثاث المكاتب والسيارات والسفريات والرحلات غير المنتجة، ووقف دعم الجمعيات لاسيما منها الوهمية، وصرف جيش العاملين مع الـUNDP غير المنتجين. ولتلغى المؤسسات العامة غير المجدية. ولتلغى وظائف الفئة الأولى المكررة لأسباب طائفية. ولتستعدْ الدولة قطاع الخلوي وتوقف استنزافه، ولتستعدْ قطاع استيراد المحروقات والنفط، وقطاع استيراد الأدوية، ولتتوقف الدولة عن دعم المدارس الخاصة على حساب المدارس الرسمية، ولتتوقف عقود الاستشارات والدراسات الوهمية.. وغيرها من الإجراءات الضرورية، التي تُتخذ في دول يسعى قياديوها الى الإصلاح الفعلي لا إلى “التشبيح” باسم الإصلاح.

عزة الحاج حسن – المدن

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button