تحت المجهر

في قلب باريس، آلة “الكاش” الغامضة للنخبة اللبنانية

بقلم كليمان فايول – Revue21
5 كانون الأول 2025

يعاني عدد لا يُحصى من اللبنانيين لاسترجاع أموالهم المحتجزة في مصارف تزعم أنها باتت عاجزة عن الدفع. لكن زبائن مُختارين بعناية يواصلون الاستفادة من ودائعهم بفضل نظامٍ وضعه الفرع الفرنسي لـ”بنك عودة”. من بين هؤلاء مقرّبون من رئيس الوزراء السابق سعد الحريري، وسفارة المملكة العربية السعودية، إضافة إلى ممول نافذ لحزب الله.
 

تحقيقات تكشف المستور.

في قلب جادة الشانزليزيه، وعلى بُعد خطوات من قوس النصر، هنالك لوحة صغيرة تحمل اسم “Bank Audi”. لا علاقة للمكان بسيارات “أودي” الألمانية؛ فالاسم في أذهان المطلعين هو أشبه بصدى بعيد لانهيار بيروت المالي.

في طابقين، ابتكر البنك اللبناني، الذي تأسس عام 1830، حياةً موازية بعيدة عن طوابير الغضب، وعن الشبابيك المغلقة، التي رافقت انهيار النظام المالي في بلاد الأرز—حتى أن بعض المودعين، في لبنان، لجأوا إلى عمليات احتجاز رهائن لاسترجاع مدّخرات عمرهم. هنا، في باريس، يدخل الزبائن من دون خوف، وبطاقاتهم في أيديهم، ليستقبلهم الموظفون بجملة يفتقدها ملايين اللبنانيين: “أموالك متوفرة.”

ملفات حساسة جدا

قلبت الأزمة الاقتصادية التي اندلعت في لبنان عام 2019 حياةَ آلاف المودعين رأساً على عقب، بعدما وجدوا أنفسهم محاصرين بين التجميد غير الرسمي لودائعهم من قبل المصارف نفسها (فالدولة لا تملك هذا الصلاحية) وبين انهيار الليرة اللبنانية.

فكيف يمكن لفرع “بنك عودة” في فرنسا، وهو فرع تابع لأحد أبرز المصارف اللبنانية، أن يظل قادراً على التصرّف بأموال؟ وكيف ذلك في وقت رفع عشرات المودعين اللبنانيين دعاوى قضائية في فرنسا لحجز أصول المصرف واستعادة مدخراتهم؟

بفضل حزمة من الوثائق التي حصلت عليها Revue21، ينكشف اللغز.

إذ تكشف هذه الملفات بالغة الحساسية كيف وضعَ “بنك عودة” خطةً دقيقة لتحويل الأموال من لبنان إلى فرنسا، تحت أنفِ الجهات الفرنسية المكلّفة بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. كل ذلك للحفاظ على إدارة مغلقة لزبائن مختارين، حيث يُعامل المال النقدي والزبائن “الخطرين” بعناية فائقة.

كنز في مأمن من الدائنين

وفقاً لحساباتنا، تم تحويل ما لا يقل عن 550 مليون دولار و200 مليون يورو من لبنان إلى فرنسا منذ عام 2019، أي منذ بداية الأزمة. رسمياً، تبدو المصارف اللبنانية منهارة. ولا يمكن لعملائها، إلا في حالات طبية أو إنسانية استثنائية، تحويل أموالهم إلى الخارج. البلد متعثر في السداد، والمصرف المركزي بلا احتياطات. وفوق ذلك، كان “بنك عودة” في بداية الأزمة يعاني من فجوة مالية تتجاوز 20 مليار دولار.

كان هدف هذه العملية المتمثلة في “سحب” أموال المودعين اللبنانيين مزدوجاً: أولاً، الحفاظ على الثقة مع شريحة محددة من الزبائن المغتربين، وثانياً، تكوين صندوق سري بعيد عن متناول الدائنين، ليُستخدم لاحقاً في إعادة رسملة المصرف عندما ييأس المودعون العاديون من استعادة أموالهم.

تجميد الحسابات المعرّضة للخطر

في باريس، بدأ الفرع الفرنسي باستهداف الحسابات الأكثر عرضة للتجميد اللبناني: حسابات العائلات الثرية، أو العشائر السياسية النافذة، أو رجال الأعمال الناجحين. ولكلٍّ من هؤلاء تمّت “عمليات إجلاء” مالية مصممة حسب الطلب.

لكن اعتباراً من عام 2021، بدأت موجة من دعاوى الحجز على الأموال في فرنسا. إذ لجأ العديد من المودعين اللبنانيين إلى القضاء الفرنسي بعدما أدركوا أنهم لن يستعيدوا أموالهم في لبنان، وفي بعض الحالات أعلنت المحاكم الفرنسية اختصاصها. بدلك، لم تعد الأموال آمنة حتى داخل الجدران المخملية لبنك عوده باريس .

وهكذا بدأت المرحلة الثانية من الخطة. فابتداءً من نهاية 2022، توالت التحويلات إلى الحسابات الفرنسية لثلاث شركات قابضة تابعة للمجموعة المصرفية هي: Audi Investments. و APB Holding، و Banaudi Holding. وبذلك تم “تأمين” 43,4 مليون دولار، بانتظار أن تفتح الانهيارات المالية والإصلاحات المحتملة في لبنان الباب أمام عمليات إعادة الرسملة.

متاجر “المثلث الذهبي” الباريسي

منذ أن وُضِعت هذه الأموال اللبنانية في مأمن في باريس، لم يقتصر الفرع الفرنسي على الأعمال الجارية البسيطة. فقد حدّدت Revue21 نحو عشرة عملاء كان استخدامهم للنقد سيؤدي، في أي مؤسسة أخرى، إلى رفع بلاغات للسلطات.

فأولاً هناك سفارات المملكة العربية السعودية ولبنان والعراق، وهي من عملاء بنك عوده باريس. بين عامي 2022 و2024، أودعت هذه السفارات نقداً بمبالغ بلغت على التوالي 366 ألف يورو، و2.3 مليون يورو، و1.5 مليون يورو. وهي ودائع كان ينبغي، بحكم حجمها، تصنيفها “عالية المخاطر” وأن تستوجب بروتوكولاً للتبرير. لكن هناك أيضاً متاجر في “المثلث الذهبي” الباريسي: بائع الساعات Élysées Shopping (5.8 ملايين يورو)، دار الأزياء الراقية Zuhair Murad (494 ألف يورو)، أو شركة الطيران اللبنانية Middle East Airlines (MEA) (489 ألف يورو).

سُنّة وشيعة
المعجزة المسكونية للمال تكمن في وجود عملياتٍ تُظهر، ولو مؤقتاً، وكأنها تزيل الانقسامات الطائفية بين السُّنّة والشيعة. فأسرة الحريري – نسبةً إلى سعد الحريري الذي تولّى رئاسة الحكومة اللبنانية عدة مرات بعد والده رفيق الحريري – تستخدم المنافذ المالية نفسها لإيداع أموالها النقدية التي تستخدمها أيضاً عائلةٌ شيعية مقرّبة من حزب الله. ويُظهر تقريرٌ داخلي أن السفير اللبناني السابق في باريس والمستشار المقرّب من سعد الحريري، “جوني عبده“، أودع أكثر من 260 ألف يورو نقداً في حسابٍ يغذّيه رئيس الوزراء السابق نفسه.

ومن بين روّاد الوكالة الباريسية أيضاً زوجة قاسم حجيج، المموّل النافذ الذي وضعته وزارة الخزانة الأميركية تحت العقوبات بسبب صلاته بحزب الله. وقد تلقّت عائلة حجيج، التي ترأس بنك MEAB، في أبريل/نيسان 2022 أموالاً نقدية بلا مبرّر، إضافة إلى حوالة بقيمة 1.7 مليون يورو قبل أن تُقدِم على شراء شقّة في باريس.

قنابل موقوتة
وفقًا لمعلوماتنا، لم تُحدَّد هذه التحركات الغامضة، فضلاً عن أنها لم تُبلَّغ إلى السلطات الفرنسية. “إيليا سماحة”، مدير “بنك عودة فرنسا”، لم يُجِب بالتفصيل عن أسئلتنا، مؤكدًا أنه مُلزَم بـ«السرّ المهني». قبل أن يوضح أن مصرفه يطبّق «بدقّة واجبات اليقظة والرقابة الداخلية المنصوص عليها في مدوّنة النقد والمال، فضلًا عن جميع القواعد المتعلقة بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب».

في نوفمبر، كانت هيئة الرقابة الاحترازية والحلّ (ACPR)، التابعة لبنك فرنسا، قد أرسلت رسالة إلى الفروع الفرنسية للبنوك اللبنانية تُحذّرها من «عدّة عوامل مخاطر». ثم لم يحدث شيء بعد ذلك. ومع ذلك، لا شكّ في أن هذه الشركات، المُسجَّلة ككيانات فرنسية، هي قنابل موقوتة. فبعد أن ساهمت في انهيار الاقتصاد الوطني، وجد القطاع المصرفي اللبناني لنفسه مخبأً: المثلث الذهبي الباريسي.

لقراءة الأصل بالفرنسية:

https://revue21.fr/article/bank-audi-cash-libanais/

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى