الرجل الذي سُجِّلت ضدّه أعلى نسبةٍ من الدعاوى القضائية في تاريخ الجمهورية اللبنانية
مخاوف من عودة عبد “المانع” يوسف من منفاه... فهل يتحرّك القضاء؟

إنه الرجل الذي حصد أعلى نسبة دعاوى قضائية ضده في تاريخ الجمهورية اللبنانية، والذي لقّبه اللبنانيون بـ“عبد المانع” يوسف، بعدما كان المانع الأساسي لتطوّر قطاع الاتصالات، ورمزًا من رموز الفساد والتواطؤ مع النظام السوري في عهد الوصاية المشؤوم.
اليوم، يعود عبد المنعم يوسف إلى الواجهة من جديد — لكن من منفاه. تحوّل إلى كاتب بيانات من الخارج، يهاجم الوزراء والرؤساء، مقدّمًا نفسه كـ“قاضٍ أخلاقي” يوزّع الاتهامات والأحكام على الجميع.
من بعيد، يطلّ كمن نسي تاريخه، طامحًا إلى العودة إلى المشهد العام، وربما إلى منصبٍ جديد، وكأنّ شيئًا لم يكن — من دون رادعٍ أو رقيب.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه:
هل يخطّط عبد “المانع” فعلًا للعودة إلى الدولة من النافذة بعدما خرج من الباب؟
وهل يمكن لمن لاحقته سلسلة دعاوى قضائية واتهامات بالفساد وعلاقاتٍ موثّقة مع النظام السوري واللواء جميل السيّد أن يعيد تلميع صورته كـ“إصلاحي منفى”؟
هل تناسى أنه، في ذاكرة اللبنانيين، يبقى من يجب أن يُحاكَم لا من يُحاكم غيره؟
من هو عبد “المانع” يوسف؟
بدأ صعود عبد المنعم يوسف عام 1995، حين عيّنه الرئيس رفيق الحريري مديرًا عامًا للاستثمار والصيانة في وزارة الاتصالات، إلى أن صدر أمر بسجنه عام 1999، فبقي في التصرّف حتى عام 2005، حين عُيّن مديرًا عامًا لـ“أوجيرو” حتى عام 2017.
ورغم أن الحريري هو من فتح له أبواب الوزارة، فإن العلاقة بين الرجلين سرعان ما تدهورت.
مصادر وزارية وسياسية سابقة أكّدت أن الثقة بينهما تآكلت حين بدأ يوسف ينسّق مباشرة مع أركان الوصاية السورية في بيروت، لا سيما مع اللواء جميل السيّد، المدير العام السابق للأمن العام.
الوزير فضل شلق، المقرّب من الحريري والذي تولّى وزارة البريد والاتصالات، كان من أوائل من عبّر عن امتعاضه من سلوك يوسف، قائلاً إنه “يتصرّف ككاتب عند جميل السيّد”.
هذا التوصيف شكّل بداية القطيعة بين يوسف والحريرية السياسية، وكرّس نفوذًا موازيًا للسلطة الشرعية داخل القطاع.
عبد “المانع” للتطوّر
بين عامَي 1995 و2017، لم يشهد قطاع الاتصالات اللبناني أي قفزة نوعية مقارنة بدول المنطقة.
مشاريع الألياف الضوئية والإنترنت السريع بقيت في الأدراج، فيما تعاملت “أوجيرو” مع القطاع الخاص بعقلية احتكارية عطّلت المنافسة وأبطأت النمو الرقمي.
تقارير ديوان المحاسبة لعامَي 2009 و2011 وثّقت تأخّر عشرات المشاريع نتيجة “قرارات إدارية غير مبرّرة” صادرة عن مديرية الاستثمار التي كان يرأسها يوسف.
حين حاول الوزير شربل نحّاس إخضاع “أوجيرو” لإشراف مباشر من الوزارة (2010–2012)، رفض عبد “المانع” بشدّة، واعتبر الخطوة “تعدّيًا على صلاحياته”.
لاحقًا، اتّهمه الوزير نقولا صحناوي علنًا بأنه “يشغّل أوجيرو كدولة خاصة”، ويجمّد مشاريع الإنترنت ليبقى القرار في يده.
النتيجة: شبكة بدائية، كلفة مرتفعة، وتراجع رقمي أخرج لبنان من المنافسة الإقليمية.
عبد “المانع” للشفافية
عام 2016، تقدّمت منظمة الشباب التقدّمي والحزب التقدّمي الاشتراكي بدعوى قضائية ضد يوسف، تضمّنت اتهامات بـ:
اختلاس أموال عامة
استيفاء أكثر من 32 مليار ليرة كضريبة TVA وهميّة
تقاضي رسوم ضمان غير مستحقّة
وغياب بطاقات الاتصال “تلكارت” و“كلام” من الأسواق
لكن النائب العام المالي القاضي علي إبراهيم قرّر حفظ الملف بذريعة “عدم جدّية الادعاء”.
لم تُستدعَ شهود، ولم تُكلّف لجنة خبراء. وبحسب مصادر صحافية آنذاك، تدخلت مرجعيات سياسية عليا لحماية يوسف.
وهكذا، تحقّق ما وصفه أحد القضاة يومها بـ“المانع الثاني”: منع الشفافية القضائية، وحماية الفساد بالمظلّة السياسية.
عبد “المانع” للازدهار
تُقدَّر الخسائر الناتجة عن سوء إدارة الاتصالات خلال عهد يوسف بمئات ملايين الدولارات.
بين عامَي 2005 و2016، صُرفت أكثر من مليار دولار على مشاريع لم تكتمل، وفق تقرير لجنة المال والموازنة النيابية.
شركات مقرّبة سياسيًا من يوسف حازت مناقصات ضخمة، فيما تحوّلت “أوجيرو” إلى ما يشبه “شركة خاصة تموّلها الدولة”.
حتى داخل تيار المستقبل، تعالت الأصوات المنتقدة له عام 2016، متهمةً إياه بعرقلة الإصلاحات التي حاول الوزير بطرس حرب تنفيذها.
وفي شباط 2017، أنهى الوزير جمال الجراح حقبته معلنًا أن “عصر الاحتكار الإداري قد انتهى”.
وُجّهت إلى عبد المنعم يوسف اتهامات بتعطيل تنفيذ قرارات وزارية، مما أدّى إلى خسائر مالية للدولة.
على سبيل المثال، تعطيل قرار تركيب علب الهاتف في الأبنية الجديدة فوّت على الخزينة العامة رسومًا تأسيسية شهرية تُقدَّر بملايين الدولارات.
كذلك، أدّى تعطيل فتح مجموعات رقمية جديدة لشركات الهاتف إلى نقص في الأرقام المتاحة للمواطنين والشركات، مما أثّر سلبًا على الإيرادات.
خسائر بسبب رفض التعاون مع الأجهزة الرقابية
وُجّهت إلى عبد المنعم يوسف أيضًا اتهامات برفض التعاون مع الأجهزة الرقابية، مثل هيئة التفتيش المركزي، حيث امتنع عن استقبال المفتّشين الماليين لمدة ثلاث سنوات متتالية.
هذا الرفض حال دون إجراء تدقيق مالي شامل في “أوجيرو”، مما ساهم في استمرار الفساد والهدر المالي.
شبكة النفوذ والارتباطات: عبد “المانع” لدولة القانون
لم يكن عبد “المانع” يوسف مجرّد إداري. فبحسب تقارير صحف لبنانية، حافظ على علاقة وثيقة مع اللواء جميل السيّد خلال مرحلة الوصاية السورية، وشارك في اجتماعات تنسيقية حول شبكات الاتصالات الأرضية والدولية.
كما ارتبط اسمه بعقود وشركات ذات صلات برجال أعمال مقرّبين من النظام السوري، ما وفّر له مظلّة حماية أمنية وسياسية داخل الإدارة.
هذه الحماية كانت السبب الأبرز لاستمراره في منصبه لأكثر من عقدين، رغم تغيّر الحكومات والوزراء، ورغم الانقسام داخل تيار المستقبل نفسه حول أدائه، ورغم تاريخه القضائي الحافل منذ تسعينيات القرن الماضي، حيث دخل السجن نحو تسعة أشهر عام 1999 بتهم فساد في وزارة الاتصالات.
بعد عودته إلى منصبه عام 2005 وتولّيه إدارة “أوجيرو”، أُقيمت عليه 139 دعوى جزائية أمام القاضي عدنان عضوم، و19 شكوى إدارية في التفتيش المركزي، بالإضافة إلى ثلاث دعاوى في ديوان المحاسبة، كما أُحيل إلى الهيئة العليا للتأديب في 48 حالة مأخذ — وهو عدد غير مسبوق من الدعاوى القضائية والإدارية ضد مسؤول واحد في لبنان.
من مدير عام إلى “محرّر بيانات”
تحوّل المدير العام إلى نمرٍ في قفص منفاه.
فمنذ خروجه من “أوجيرو” عام 2017 ومغادرته لبنان، لم يمرّ شهر دون أن يطلّ عبد المنعم يوسف بمنشور أو مطوّلة يهاجم فيها الدولة والوزراء، مقدّمًا نفسه كـ“صوت الضمير الوطني”.
يكتب بلغةٍ مشحونة بالاتهامات والادعاءات، محاولًا أن يلبس ثوب المصلح.
لكن اللبنانيين يعرفون جيدًا من عطّل الإصلاح حين كان في موقع القرار.
وبحسب مصادر في وزارة الاتصالات، لا تزال بعض العقود والبيانات التي أُبرمت في عهده غير موثّقة بالكامل في الأرشيف الرسمي، ما يعقّد عملية التدقيق والمحاسبة حتى اليوم.
الخلاصة
قصة عبد المنعم يوسف تختصر مأساة الإدارة اللبنانية الحديثة: حين يتحوّل الموظف العام إلى سلطة موازية، تصبح الدولة رهينة مزاجه، ويُختزل التطوير في توقيعه.
هو ليس فقط “عبد المانع” بالاسم، بل بالنهج:
مانع للتطوّر، مانع للشفافية والقانون، ومانع للازدهار.
ورغم أنه اليوم في المنفى يهاجم الجميع من بعيد ويحاول العودة ليتولّى منصبًا ما، فإن اللبنانيين يعرفون جيدًا من الذي عطّل البلاد من الداخل أيام الوصاية.
وفي بلدٍ تُدار فيه العدالة بالتسويات لا بالمحاسبة، يبقى سقوط عبد “المانع” يوسف فصلًا في مسلسلٍ طويل من الحصانات المقنّعة.




