تحت المجهر

العونية السياسية: إعادة إنتاج الفشل كهوية جماعية

بقلم تادي عواد

في تاريخ الشعوب والأقليات، كثيراً ما تتكرر المآسي حين يتحوّل الولاء الأعمى إلى بديل عن العقل السياسي. وهذا ما نشهده اليوم في التجربة المسيحية مع العونية السياسية: إعادة إنتاج لفشل متواصل، وكأنّ الانهيار تحوّل إلى هوية راسخة لا مجرّد حدث عابر.

أُصيب اللبنانيون بالخذلان مرتين في ظل قيادة ميشال عون: الأولى عام 1989 مع المغامرة العسكرية التي عزلت المسيحيين ودفعتهم إلى نزيف هجرة واسع، والثانية عام 2019 مع الانهيار الاقتصادي–المالي الذي أطاح بما تبقّى من ركائز الدولة والمجتمع. في المرتين كان القائد واحداً والنتيجة واحدة: خسائر بشرية، تهجير، خراب، وفقدان الموقع السياسي.

هذه الظاهرة ليست استثناءً، فالتاريخ قدّم نماذج مشابهة:

في البلقان، انجرت أقليات قومية وراء زعامات شعبوية أو عسكرية، فدفعتها إلى الحروب والاقتلاع.

في المشرق، كررت بعض الجماعات المسيحية أخطاء قاتلة حين سلّمت قرارها لزعماء مغامرين، فوجدت نفسها ضحية صفقات إقليمية أكبر منها.

والمفارقة أنّ المسيحيين، الذين صاغوا في مطلع القرن العشرين مشروع الدولة اللبنانية كإطار حضاري وحداثي، انزلقوا وراء “البدعة العونية” التي تحوّلت إلى ما يشبه طقساً انتحارياً جماعياً. فبدلاً من أن تكون العونية تجربة سياسية عابرة، صارت “ثقافة موت” قائمة على إعادة تدوير الفشل وتبريره.

الأخطر أنّ الكنيسة المارونية، التي لعبت تاريخياً دور الحارس على الهوية الجماعية، تبدو اليوم عاجزة أو مترددة في تشخيص هذا المرض. ففي تجارب أخرى، كما في بولندا زمن الشيوعية أو أرمينيا بعد الانهيارات الكبرى، قامت الكنيسة بدور البوصلة الأخلاقية والسياسية لإنقاذ الجماعة. أمّا في الحالة اللبنانية، فإن الغياب الكنسي يفتح الباب أمام تحويل الانتحار إلى قدر.

إنّ التحدي المطروح اليوم أمام المسيحيين ليس سياسياً فحسب، بل وجودياً–تاريخياً. فإمّا القطع مع “النشوة الانتحارية” العونية، وإمّا الاستمرار في إعادة إنتاج الفشل، إلى أن يصبح الحديث عن المسيحيين في لبنان مجرّد ذكرى في كتب التاريخ، تماماً كما تحوّلت جماعات أخرى إلى أثر بعد عين.

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى