غياب المحاسبة القضائية في لبنان: العقوبات الأميركية على جبران باسيل نموذجًا لهشاشة دولة القانون

تشكل العقوبات الأميركية الصادرة بحق النائب جبران باسيل بتاريخ 6 تشرين الثاني 2020 بموجب “قانون ماغنيتسكي العالمي” محطة مفصلية تسلّط الضوء على خلل بنيوي عميق في النظام القضائي اللبناني، وعلى غياب الإرادة السياسية الجدية في مكافحة الفساد داخل مؤسسات الدولة. فبينما تبادر دول خارجية إلى تفعيل آليات مساءلة قانونية في مواجهة مسؤولين لبنانيين متهمين بالفساد، تبقى الدولة اللبنانية عاجزة عن اتخاذ أي إجراء فعلي، ولو بالحد الأدنى من المسؤولية الوطنية.
. وقائع العقوبات
بحسب بيان وزارة الخزانة الأميركية، استند فرض العقوبات إلى حيثيات واضحة تتمحور حول ارتكاب باسيل “أعمال فساد ممنهجة” خلال توليه مناصب وزارية. وقد شملت الاتهامات:
تفضيل شركات وشبكات محسوبة عليه في تلزيمات الدولة.
تمرير صفقات مشبوهة عبر شركات وهمية تعود لمقربين منه.
ترسيخ منظومة المحاصصة وتعطيل بنية الدولة المؤسساتية.
بموجب هذه العقوبات، تم إدراج باسيل على لائحة مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC)، ما أدى إلى تجميد أمواله ضمن نطاق الاختصاص الأميركي، ومنع التعاملات المالية معه، وحظر سفره إلى الولايات المتحدة.
. غياب أي تحقيق داخلي: تقاعس قضائي أم تغطية سياسية؟
رغم خطورة هذه الاتهامات، لم تُباشر أي سلطة لبنانية – تنفيذية كانت أم قضائية – بفتح تحقيق رسمي مع باسيل. وهو أمر يطرح إشكاليات قانونية على أكثر من مستوى:
انتهاك مبدأ المساواة أمام القانون.
تقويض استقلالية القضاء.
إخلال الدولة بالتزاماتها بموجب الاتفاقيات الدولية لمكافحة الفساد، ومنها اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد (UNCAC).
هذا الصمت المريب من جانب النيابات العامة المختصة، خصوصًا النيابة العامة المالية، لا يمكن تفسيره إلا بوجود إرادة سياسية واضحة لعرقلة أي مسار قضائي فعّال، وهو ما يشكل طعنًا بمبدأ فصل السلطات وضربة لمفهوم دولة القانون.
. حين تصبح العدالة مستوردة: اختلال في السيادة القضائية
لا يجوز لدولة تحترم مؤسساتها أن تكتفي بقرارات الخارج، أكانت عقوبات أم تقارير، دون أن تستكمل ذلك بتحقيقات داخلية. فالصمت الرسمي اللبناني أمام العقوبات يُعد بمثابة إقرار غير مباشر بالعجز، أو في أسوأ الأحوال، تواطؤ مؤسساتي مع ممارسات موصوفة بأنها فاسدة.
إن اعتماد اللبنانيين على إجراءات دولية لتحقيق العدالة، في ظل انعدام الثقة بالقضاء المحلي، يضع لبنان في موقع الدولة الفاشلة قضائيًا، ويُفقد النظام القانوني مصداقيته أمام الرأي العام المحلي والدولي.
. خاتمة: ضرورة بناء منظومة محاسبة وطنية مستقلة
إن ملف العقوبات على جبران باسيل يجب أن يُشكّل نقطة انطلاق لإعادة النظر جذريًا في منظومة العدالة اللبنانية. فالمحاسبة لا تُبنى على انتقائية أو انتقام سياسي، بل على قواعد قانونية ثابتة، تبدأ باستقلالية القضاء، وتنتهي بإزالة الحصانات الطائفية والسياسية عن أي مسؤول متهم.
لا يمكن للبنان أن ينهض طالما أن سلطته القضائية رهينة المساومات، وطالما أن المتهمين بالفساد ينعمون بالحماية بدل المساءلة. فالدولة التي تفقد أدواتها القانونية لمحاسبة المتورطين، تفقد شرعيتها.