ملف الفيول في لبنان: الفساد، الاحتكار، والتلاعب بالأسعار

بقلم تادي عواد
يمثل ملف الكهرباء في لبنان أحد أبرز أوجه الفساد والهدر في الدولة، حيث يعتمد البلد بشكل شبه كامل على استيراد الفيول من الخارج لتشغيل محطات توليد الطاقة. إلا أن هذا القطاع يعاني من أزمات متكررة بسبب سوء الإدارة، وغياب الشفافية، والاحتكارات التي أدت إلى تضخيم الأسعار واستيراد شحنات غير مطابقة للمواصفات. ومن أبرز أسباب الفساد في هذا القطاع عدم إدراج أسعار الفيول من نوع Grade A وGrade B في البورصات العالمية، ما يفتح المجال أمام التلاعب بالأسعار والعقود.
ما هو الفيول Grade A وGrade B؟
نوع Grade A: وقود ثقيل منخفض الكبريت، يُستخدم في المحركات والتوربينات الأكثر حساسية، وهو أغلى من النوع الآخر.
نوع Grade B: وقود أثقل يحتوي على نسبة أعلى من الكبريت، وهو أرخص لكنه أكثر تلويثًا.
في لبنان، يُفترض أن يتم استيراد الفيول وفقًا لمواصفات محددة، لكن التحقيقات كشفت مرارًا عن عمليات غش في الكميات والجودة، ما أدى إلى أعطال متكررة في محطات الكهرباء.
كيف يتم استغلال غياب السعر العالمي للفيول؟
يُعد الفيول من نوع Grade A وGrade B من السلع التي لا تمتلك تسعيرة دولية موحدة مثل النفط الخام، مما يتيح للموردين والمتعهدين التلاعب بالأسعار عبر تضخيم الفواتير والسمسرة في العقود.
أبرز أشكال الفساد في استيراد الفيول:
التلاعب بالأسعار: توقيع عقود بأسعار أعلى من السعر الفعلي الذي يمكن الحصول عليه من الأسواق الإقليمية.
استيراد شحنات مغشوشة: في عدة فضائح سابقة، تم خلط الفيول بمواد رديئة لتحقيق أرباح إضافية، ما أدى إلى أعطال في محطات الكهرباء.
هيمنة الوسطاء والسماسرة: بدلًا من الشراء المباشر من المصافي الكبرى، يتم الاستيراد عبر وسطاء متنفذين يرفعون الأسعار بشكل غير مبرر.
العقود الحصرية والاحتكارات: تمتعت بعض الشركات بعقود حصرية مع مؤسسة كهرباء لبنان، مما منع المنافسة وأدى إلى تثبيت أسعار غير عادلة.
فضيحة الفيول المغشوش في لبنان (2020)
العقد مع سوناطراك
في عام 2005، وقع لبنان اتفاقًا مع شركة سوناطراك الجزائرية لتزويد مؤسسة كهرباء لبنان بالفيول والمازوت. كان يُفترض أن يضمن العقد وقودًا بأسعار عادلة، لكن تم اكتشاف عمليات فساد أدت إلى استيراد شحنات غير مطابقة للمواصفات.
الكشف عن الفيول المغشوش
في أبريل 2020، تبين بعد الفحوصات المخبرية أن بعض الشحنات المستوردة غير صالحة للاستخدام، مما أدى إلى توقف بعض محطات الكهرباء عن العمل. وأظهرت التحقيقات أن بعض المسؤولين كانوا على علم بالمشكلة لكنهم سمحوا بإدخال الشحنات مقابل رشاوى وعمولات.
تداعيات الفضيحة
إلغاء العقد مع سوناطراك في يونيو 2020 بعد تصاعد الضغوط السياسية والإعلامية.
محاكمة المتورطين، ومن بينهم مسؤولون في وزارة الطاقة وشركة ZR Energy التي كانت الشريك المحلي في الاستيراد.
عدم محاسبة وزراء الطاقة المتعاقبين، إذ لم يتم التحقيق معهم رغم أنهم كانوا الجهة الرسمية التي وقعت العقود مع سوناطراك وZR Energy، وذلك بسبب الضغوط السياسية.
فرض غرامات على بعض الأطراف، رغم أن سوناطراك نفت أي مسؤولية مباشرة، مؤكدة أن التلاعب حصل على مستوى الشركات الوسيطة.
ما الذي حدث بعد ذلك؟
بعد إلغاء عقد سوناطراك، لجأ لبنان إلى صفقات بديلة مثل اتفاقية استيراد الوقود من العراق، لكن أزمة الكهرباء استمرت بسبب غياب الإصلاحات الجذرية واستمرار الصفقات غير الشفافة.
كيف يمكن تفادي هذه المشكلة؟
إلغاء دور الوسطاء: الشراء المباشر من الشركات الكبرى مثل أرامكو أو توتال عبر مناقصات شفافة.
اعتماد معايير تسعير واضحة: مثل ربط أسعار الفيول بأسعار وقود السفن (Bunker Fuel) أو بأسعار النفط الخام.
إجراء فحوصات دقيقة للشحنات: عبر مختبرات مستقلة قبل تفريغ أي شحنة في لبنان.
محاسبة المتورطين: وفرض عقوبات صارمة على أي جهة تتورط في صفقات غير قانونية.
الانتقال إلى بناء محطات إنتاج كهرباء جديدة تعمل على الغاز، لتقليل الاعتماد على الفيول وتخفيض التكاليف.
الخلاصة
يُعد ملف الفيول في لبنان مثالًا صارخًا على الفساد المستشري في قطاع الطاقة، حيث أُهدرت مليارات الدولارات بسبب الاحتكارات، والرشاوى، والعقود غير الشفافة. وطالما أن إدارة هذا الملف تتم بعيدًا عن الرقابة، ستبقى الأزمة قائمة، وسيظل اللبنانيون يعانون من انقطاع الكهرباء بسبب مصالح فئة قليلة تتربح على حساب الدولة والمواطنين. الحل الوحيد هو فرض إصلاحات جذرية في قطاع الطاقة، بدءًا من الشفافية في التعاقدات وصولًا إلى إنهاء الاحتكارات وإدخال المنافسة الحقيقية إلى هذا القطاع.