وزارة المالية تُشرعن الفساد بدلاً من مكافحته
في لبنان، تحوّل الطابع المالي الورقي إلى سلعة تُباع في السوق السوداء بأسعار مضاعفة، بفعل احتكار شبكات تجارية نافذة. وبدلاً من اعتماد حلول شفافة وعصرية لمعالجة هذه الأزمة، لجأت وزارة المالية إلى سياسات غامضة ومشوبة بالفساد، ما أدى إلى تفاقم المشكلة بدلاً من حلّها.
مشروع الطابع الإلكتروني: بين الحداثة والالتفاف على القانون
المشروع الذي طرحته وزارة المالية لتطبيق الطابع الإلكتروني كان من المفترض أن يُحدث نقلة نوعية عبر استخدام رموز QR Code بدلاً من الطوابع الورقية، ما يسهم في تقليل الاحتكار والسوق السوداء. غير أن الحل الذي تم تقديمه لم يكن رقميًا بالكامل، بل جاء كحل “هجين”، حيث تم الإبقاء على ملصقات ورقية تُطبع عبر أجهزة POS Machines، مما يبقي الباب مفتوحًا أمام الفساد بدلاً من القضاء عليه.
رفض ديوان المحاسبة: شبهات قانونية ومالية
رفضت الغرفة الرابعة في ديوان المحاسبة التلزيم استنادًا إلى عدة اعتبارات قانونية ومالية، أبرزها:
عدم توافق المشروع مع قانون رسم الطابع المالي، حيث لم يلتزم بالمادتين 20 و21 اللتين تحددان كيفية استيفاء الرسوم.
غياب التقدير المالي للإيرادات، ما يخالف قانون الشراء العام الذي يتطلب تقديم بيانات دقيقة حول العائدات المالية.
احتساب كلفة المشروع بناءً على نسبة الجعالة (5%)، وهو أمر غير قانوني، إذ يتعارض مع مبدأ شيوع الإيرادات في المالية العامة.
المناقصة المثيرة للجدل: احتكار وهيمنة مصالح محددة
كشف الملف عن وجود صفقات مشبوهة في تلزيم المشروع، حيث تقدمت شركتان فقط للمناقصة:
شركة Core Technologies and Solutions، التي فازت بالمناقصة بعد تقديمها عرضًا تنزيليًا بنسبة 4.25%.
وشركة Evolution Technologies، التي قدمت عرضًا بنسبة 5%، وهو الحد الأقصى، مما يثير الشكوك حول ما إذا كانت مجرد “شريك صوري” لإضفاء مظهر المنافسة على الصفقة.
وتعزز هذه المعطيات فرضية أن دفتر الشروط قد فُصِّل على مقاس محدد، خاصة عبر:
استبعاد الشركات الأجنبية عبر فرض شروط تُجبرها على الائتلاف مع شركات محلية.
تسهيل مشاركة الشركات المحلية باشتراط خبرة لا تتجاوز سنتين فقط، حتى لو لم تكن في مجال الطابع الإلكتروني، بل في أي نوع من الطباعة الورقية.
هذا الأمر يؤكد أن المناقصة لم تكن سوى إجراء شكلي لإضفاء شرعية على عملية تلزيم تم إعدادها مسبقًا لصالح جهات معينة.
المخالفات الجوهرية في المشروع
عدة إشكاليات قانونية ومالية رافقت التلزيم، أبرزها:
غياب معايير الشفافية في إدارة الإيرادات: لم يُحدد كيف سيتم تحويل الإيرادات إلى وزارة المالية، وما إذا كان ذلك سيتم بشكل دوري أم وفق جدول زمني محدد.
إسناد تشغيل المشروع بالكامل إلى المتعهد: الشركة الفائزة ليست مسؤولة فقط عن تنفيذ المشروع، بل تديره أيضًا، مما يمنحها سيطرة مطلقة على إيرادات الدولة.
عدم وضوح ملكية التجهيزات بعد انتهاء العقد: مما قد يسمح للشركة بالاحتفاظ بالبنية التحتية للمشروع واحتكار تشغيله حتى بعد انتهاء العقد الرسمي.
استمرار مافيا الطوابع الورقية: تواطؤ إداري ومخالفات قضائية
رغم الحديث عن مشروع الطابع الإلكتروني، لا تزال الطوابع الورقية تُباع في السوق السوداء بأسعار مرتفعة، دون أي تدخل حقيقي من الجهات الرقابية. تشير التقارير إلى أن بعض المسؤولين في وزارة المالية تعرضوا لضغوط وتهديدات لعدم إيقاف الاحتكار، ما يعكس حجم التواطؤ بين الدولة ومافيا الطوابع.
الحلول الممكنة لإنهاء الأزمة
للخروج من هذه الدوامة، يمكن اعتماد عدة إجراءات إصلاحية:
إطلاق مشروع حقيقي للتحول الرقمي يتماشى مع المعايير الدولية، بحيث يتم استيفاء الرسوم إلكترونيًا بالكامل دون الحاجة لأي طابع ورقي.
إصلاح آليات المناقصات العامة، وضمان مشاركة شركات مؤهلة عبر آلية شفافة وعادلة.
تعزيز الرقابة على إدارة الإيرادات، بحيث تذهب مباشرة إلى خزينة الدولة دون أي وسطاء.
محاسبة المسؤولين عن السوق السوداء للطوابع، وتفعيل الإجراءات القضائية ضد المحتكرين.
الدولة تُشرعن الفساد بدلاً من مكافحته
ملف الطابع المالي يُعد نموذجًا واضحًا لكيفية التفاف الدولة اللبنانية على الحلول الجذرية، عبر اعتماد حلول “وسطية” تُبقي الفساد قائمًا. فبدلاً من تنفيذ نظام رقمي شفاف، يتم تصميم المناقصات لتناسب مصالح معينة، مما يسمح باستمرار استغلال المواطنين، سواء من خلال السوق السوداء أو عبر عقود التلزيم المشبوهة.
هذا الواقع يؤكد أن الأزمة اللبنانية ليست فقط أزمة اقتصادية، بل هي أزمة حكم وفساد بنيوي، حيث يتم استغلال أي فرصة إصلاحية لتحويلها إلى مشروع جديد للنهب المنظّم، بدلاً من أن تكون خطوة نحو بناء دولة حديثة قائمة على الشفافية والمساءلة.