فليتوقف الحريري والمستقبل عن الندب والتنصل من المسؤولية
يتعايش لبنان مع مفارقات سياسية كثيرة. فبالتزامن مع نقاش الرؤساء الثلاثة لإنضاج ردّ على المبادرة الخليجية، يستمر حزب الله في إيصال رسائله التي ترفض التعاطي معها. وهذا أمر معروف ومثبت. فأي استفزاز جديد لدول الخليج بهدف إبعادها عن لبنان، يعمل الحزب على الاستفادة منه في تعزيز العزلة اللبنانية.
المفارقة اللبنانية الثانية مدارها إعلان الرئيس سعد الحريري تعليق عمله السياسي. وهذا يعني أن الرجل أراد الخروج من مرحلة تشهد الكثير من المواجهات والصدامات، فيما يطرح سؤال أساسي عن البديل الذي يحل محل الحريري. وعلى وقع هذه الأسئلة تخاض حملات سياسية عشوائية تساهم بها شخصيات سنية، من شأنها تحويل السنّة إلى “سبايا”، أو تضعهم في خانة ضحية المؤامرات. وفي هذا قصر نظر سياسي.
الحريري والخليج وحزب الله
والمفارقتان مترابطتان. فعندما لجأت السعودية إلى فرض هذا الوضع على لبنان، أرادت لموازين القوى في لبنان أن تختل، في محاولة منها لإعادة تكريس التوازن بتشكيل جبهة سياسية قادرة على فرض شروطها في المعادلة الداخلية. وكان التوازن المفقود قد بدأ مسيرته رسمياً في تسوية 2016 بين الحريري وعون.
والحريري وصل إلى ما وصل إليه، نتيجة فكرة سياسية أعلنها في ذكرى اغتيال والده قائلاً إنه لا يهتم بالسياسة بل بالاقتصاد. وعندما سعى إلى إبرام التسوية الرئاسية مع عون، قال له السعوديون: عليك أن تتحمل مسؤولية خيارك. وهذا تحذير مبطن. ثم توالت التحذيرات قبل استقالته من الرياض في العام 2017، وتتابعت عندما جدد التسوية التي انفجرت في 17 تشرين 2019.
وحتى ما بعد استقالته، تلقى الحريري نصائح كثيرة: ضرورة تسميته شخصية سنية تشكل قطعاً مع المرحلة السابقة. وإذا لم يُرِدْ ذلك، فالأفضل ألا يسمي، ولا يتورط مجدداً في اللعبة السياسية اليومية، التي تنظر إليها دول الخليج بصفتها تمنح الغطاء لحزب الله، وتستمر في تعبيد مسيرة المواءمة بين الدولة والحزب.
الحريري مثل عون وباسيل
ووصل الحريري أخيراً إلى قرار تعليق عمله السياسي. وهو حمّل مسؤولية ذلك للآخرين. وفي مجالسه ألقى باللوم على نبيه برّي، وليد جنبلاط، سمير جعجع، الفرنسيين، السعوديين، وحتى المصريين. واعتبر أنه الجميع تخلوا عنه، من دون أن يقدم على عملية نقد ذاتي بينه وبين نفسه. وهو في هذا تحول في ممارسته السياسية إلى ما يشبه ميشال عون وجبران باسيل: إلقاء التهم على الآخرين وتنزيه نفسه.
وهذا يدلّ على عدم اقتناع الحريري بما أقدم عليه. ويتجلى ذلك بربطه السياسة لدى السنة وتيار المستقبل بشخصه. وفي هذا مخاطر أكبر من اعتكافه. وإذا كان خروجه من المشهد يمثل ضربة قوية للسنة وللاعتدال، فإن الضربة الأكبر تنجم عن استمراره في شنّ حملات عشوائية على أي طرف يمكن أن يلتقي مع السنة، أو على أي شخصية سنية تخرج من حضن الحريرية السياسية لاستكمال المسار السياسي.
المقاطعة في هذا المجال إمعان في كسر التوازن، كما حصل للسنّة في العراق. وهذا دليل على تحويلهم من عنصر يرفد الدولة أو مكون لها، إلى طائفة تقاطع الدولة كما فعلت طوائف أخرى. وهذا لا يمكن أن يستقيم، بل يؤدي إلى مزيد من الانهيار. وهذا ما يتجلى لدى البعض في إظهار التطرف على أنه البديل الوحيد عن الحريري، على منوال “الأسد أو نحرق البلد”. أو على قاعدة التخيير بين الأسد أو داعش.
التنصل من المسؤولية
أما الأخطر من ذلك فهو غرق تيار المستقبل، نوابه ومسؤوليه، في اتهام الآخرين، وتحديداً للقوات اللبنانية أو العونيين. ففي ذلك استضعاف أكثر للنفس، واستسلام إلى فكرة لا تبصّر فيها: تحويل السنّة جماعة مستضعفة لا تملك قراراً ولا خياراً، ويسهل على الآخرين التلاعب بها. وفي تكريس ذلك يكون تيار المستقبل أو الحريري من يتحمل مسؤوليته. فبدل إلقاء اللوم على القوات أو العونيين، يجب إلقاء اللوم على من سمح لهما بنيل ما أرادوه.
الحملات العشوائية التي يضطلع بها تيار المستقبل مضرّة على المديين المتوسط والبعيد. الطبيعة لا تقبل الفراغ. ولا يمكن تكريس مبدأ الفراغ. والحريّ هو التفكير في إنتاج جسم سياسي جديد قادر على إثبات الحضور والمواكبة في هذه المرحلة، في انتظار قرار الحريري العودة إلى الساحة السياسية.
في بيئة المستقبل والسنّة، تساؤلات كثيرة حول ماذا بعد؟! السياسة لا تتوقف، ولا يمكن التحكم بعقارب الزمن. أما الحملات العشوائية فمن شأنها تدمير ما تبقى من خيارات، والدخول في فوضى عارمة، لا تنتج سوى المزيد من العزلة.
رد حزب الله الواضح
هذا هو الوضع الذي لا بد من التوقف عنده، على وقع التطورات الإقليمية، واشتداد الصراع على لبنان، في ظل مناقشة الشروط السعودية الخليجية نهاية هذا الأسبوع، والبحث في الأجوبة اللبنانية المفترض تقديمها. وهذا ما يرفضه حزب الله رفضاً مطلقاً.
المفارقة هنا تكمن في المعادلة التالية: كلما طرح تطبيق القرارات الدولية أو الالتزام بها، يلجأ حزب الله إلى رسائله الواضحة: خرقه القرار 1701. وهي معادلة تتحكم بالمجريات اللبنانية في المرحلة المقبلة، بكثير من التشدد والتصعيد. ولا يمكن أن يغيب السنة عن هذه المعادلة، ويستغرقون في حال من الندب الدائم.
منير الربيع _ المدن