تلاشي العونية بزحلة: عجرفة باسيل واستفزازات سليم عون
لم يكن التيار العوني يوماً من صلب النسيج السياسي الزحلي. فعاصمة البقاع احتضنت “عونيين” من جيل “آمَنَ” بمواقف الجنرال “السيادية” في وجه الاحتلال السوري للبنان، فاضطهدوا ولوحقوا واعتقلوا وتواروا عن الأنظار، حتى الانتخابات الأخيرة التي جرت تحت السيطرة المباشرة لنظام الأسد عام 2000.
مأساة زحلة العونية
كان الصوت “المسيحي” في زحلة آنذاك، هو الأعلى في المطالبة بإنهاء ذاك “الاحتلال”. وخاض العونيون الانتخابات للمرة الأولى تحت العنوان إياه. وكانت تلك مناسبتهم الأولى لكشف انتماءاتهم بلا خوف، فاحتضنت زحلة نواتهم منذ سنة 2005، لتتحول حالة شعبية جارفة في أول انتخابات جرت بعد انسحاب سوريا من لبنان. وكان الخطاب العوني آنذاك يشبه مواقف زحلة في مواجهة التحالف الرباعي لقوى 14 أذار مع حزب الله وأمل. لكن الواقعة وقعت بعد توقيع ورقة “تفاهم التيار- حزب الله”، فسقط “البرتقالي السيادي” في ازدواجية خطابه المتناقض مع تسوياته، إلى حد تحمله وزر مواقف حلفائه في “ارتهانها” للنظام السوري وإيران.
وحوّل العونيون ورقة التفاهم تماهياً كلياً مع حلفائهم الجدد. فلم يعد حتى “زحالنة التيار” يفهمون دفاع العونيين المستميت عن “السلاح غير الشرعي”، واصطفافهم خلفه، وخصوصاً بعد أحداث 7 أيار2008.
وقع التيار في شر أعمال حليفه الشيعي، غير المقبول في مدينة زحلة ومحيطها السني. وهو استدرج إلى خطابات صدامية مع هذه البيئة، وانجرف إلى هذه الخطابات معظم رموز “العونية” في المدينة، وأبرزهم النائب سليم عون. وهذا ما جعله شخصية مستفزة، وصعب قبوله في ظل التسويات الانتخابية التي فرضت تحالف “التيار الازرق” مع “البرتقالي” في انتخابات سنة 2018.
حدثت هذه التسويات، فيما الحالة “العونية” آخذة بالتقلص في زحلة. وزاد من تدهورها وصول العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، محملاً بأعباء حلفائه وودائعهم “الثقيلة” في القصر الجمهوري. وتقزّم حجم العونية بسبب الأزمات السياسية والاقتصادية التي سبقت وصول العماد ميشال عون إلى سدة الرئاسة، وتفاقمت بعد وصوله.
فمنذ “التسونامي العوني” الذي ركبت موجته “الكتلة الشعبية” لتنقذ نفسها من غرق محتم في أول انتخابات جرت بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري، إلى رابع دورة انتخابية ستجري منذ ذلك الحين (2005) خلال أشهر قليلة مقبلة، خسر “التيار المسيحي العوني” الكثير من رصيده “السريع” الذي حققه في زحلة منذ سنة 2005. وعاد حضوره إلى المربع الأول، متراجعاً إلى مستوى محازبين بلا مناصرين، مع غياب الوئام حتى بين أركان البيت الواحد.
نجاة ميشال ضاهر من العونية
انطلاقاً من هذا الواقع، يخوض التيار العوني اليوم معركته الأصعب في مدينة زحلة. وهي قد تخسِّره هذه المرة أيضاً مقعده النيابي، بعدما استرده بفضل قانون انتخابات تفضيلي، وبقي مرشح التيار خلاله متخلفاً عن أعضاء لائحته الذين حصدوا حواصل أكبر. ومن بينهم المرشح “المستقل” ميشال ضاهر الذي تصدرت أرقامه لائحة تحالف التيار الأزرق مع البرتقالي.
وقد أسعفت ضاهر ملاءته المالية وقدرته المؤسساتية لاحقاً، في التقدم على زملائه النواب بمبادرات لقيت صداها في المنطقة. وكان يمكن للوطني الحر أن يستثمرها في حسابه، لولا أن ضاهر سارع إلى الانسحاب من تكتله النيابي، محاولاً أن ينجو بمسيرته السياسية التي بدأ يشقها نيابياً.
العونية بين السنّة والشيعة
وكان لانتخابات سنة 2018 التداعيات الأكبر على مسار التيار العوني الانحداري في زحلة. فظهر غير متجانس في تحالفاته مع تيار المستقبل، وفي ماكينته التي تشتتت أصواتها، وصولاً إلى خروج جزء منها عن القرار الحزبي، وتصويتها تفضيلياً للمرشح الأرثوذكسي على اللائحة، أي مدير عام شركة كهرباء زحلة أسعد نكد. وهذا خلافاً للتوصيات الموجهة للمحازبين، خصوصا بحتمية منح الصوت التفضيلي للنائب سليم عون.
ومنذ ذلك الحين لا يبدو أن التيار البرتقالي التقط أنفاسه. فهو لم يتعاف، ولا عالج نقاط ضعفه الآخذة بالتوسع في دائرة زحلة الانتخابية تحديداً. ويعتقد مراقبون أن العونيين ربما استشعروا أخيراً حاجتهم الملحة إلى ترتيب بيتهم الداخلي، فاستعانوا بقدامى المناضلين لرص صفوفهم الحزبية.
لكن معضلة التيار الانتخابية ليست في الشارع الزحلي المسيحي فقط -والذي قد تتبدل أهواؤه حسب المتغيرات السياسية- قدر ما هي في الشارع السنّي الواقع في طلاق تام مع العونية. فيما الطرف الشيعي ماضٍ في حساباته المناسبة لمصالحه الخاصة، والتي لم تمنعه من خوض الانتخابات الماضية ضد حلفائه العونيين في زحلة، وفي مواجهة لائحة القوات اللبنانية، من خلال تحالفه مع النائب السابق نقولا فتوش.
وهكذا يكون التيار العوني قد خسر الشارع السني، من دون أن يربح الشارع الشيعي، وخصوصاً في ظل تنافره مع حركة أمل. هذا فيما أضعف الانهيار السياسي والاقتصادي المتمادي في عهد الرئيس ميشال عون “القوي” العونية، وعمّق الحفرة لتيارها في زحلة، بعدما عجز عن تسجيل إنجاز واحد في المدينة. وشأنه في ذلك شأن سائر الأحزاب التي لم تضع زحلة على جدول أولوياتها.
مدفع HR العوني الروسي
ويسخر خصوم العونيين في زحلة، كلما دار الحديث عن إنجازات تيارهم في المدينة، ويشيرون إلى مدفع روسي نصب مؤخراً بجهد النائب سليم عون وابنته مع القيادة العسكرية، في ساحة مستحدثة للجيش بوسط زحلة. ولعل الجزء الأكبر من الانتقاد ينصب على توقيت الاحتفال بـ”ساحة جامدة”، فيما يعيش الناس كل يوم أزمة الرغيف والمازوت والبنزين والكهرباء والدواء. هذا فيما تنهار مؤسسات الدولة لمصلحة اللاشرعية، التي يحمِّل كثيرون مسؤولية الإمعان في تهديمها لتحالفات العونيين وتسوياتهم مع حزب الله وسلاحه.
وتتوسع دائرة الانتقادات الزحلية للتيار الذي قدم نفسه حالةً مثالية، فإذا به كسائر الأطراف السياسية التي تسلمت السلطة: نزوعه إلى نهج الزبائنية في سلوكه مع الناس. ويتعلق الشطر الأكبر من الانتقادات بتوظيفات “غب الطلب” رعاها النائب سليم عون في مؤسسة مياه البقاع. لذا سماه البعض HR (أي مدير التوظيف في المؤسسة). بينما كان يعول البعض على أن تجند إمكاناته لمساعدة المؤسسة الغارقة في عجز مالي وإداري، لتحسين أدائها بما يتلاءم مع المصلحة العامة.
ومن الأخطاء التي وقع فيها العونيون في المدينة شخصنتهم “الحزب”، إلى حد التصاق صورته بالنائب سليم عون، واستصعاب العونيين أنفسهم التخلي عن هذه الصورة في المدينة. والشخصنة جعلت من الهجوم على عون هجوماً على التيار في زحلة، وبالعكس. ومع أن كثرة من الزحليين غير الحزبيين يحترمون النائب سليم عون الحاضر في تفاصيل الحياة الزحلية منذ شبابه، ما عادوا “يستهولون” اليوم تعرض منزله في وسط المدينة لاعتداءات. وقد طالت انتقاداتٌ عائلته من غير وجه عدل. فتصريحات النائب سليم عون المستفزة للمكونات السياسية الأخرى، سهلت مهمة خصومه في انتقاده.
وسهلت الشخصنة الشقاق في صفوف المحازبين العونيين، إلى حد استغلالها لإضعاف ماكينة التيار الانتخابية في المرحلة المقبلة.
فوقية باسيل
والانتخابات مناسبة لتفجير هذه الخلافات بين جيل العونيين القدامى المسلحين بنضالاتهم في المدينة، والجيل الجديد من الطامحين للمقاعد الانتخابية، والمستعدين للسير بطموحاتهم إلى حد كسر “تابو” المواجهة مع الجيل الأول.
وحتى عندما تسلم الجيل الجديد قيادة هيئة القضاء في التيار، لم ينجح في تسجيل إنجاز يبرر نزعته إلى التغيير من الداخل. فالتيار الذي ينادي بالإصلاح والتغيير، ظل غائباً عن ساحات “الثورة” التي فجرتها الظروف المعيشية. بل وقف موقفاً دفاعياً في مواجهتها، آخذاً عليها تسييرها من قبل قواتيي المدينة.
ولما حاول التيار الدخول في موجة الإصلاح ومحاربة الفساد، لم يجد سوى ملف إدانته أداء مستشفى الياس الهراوي الحكومي. وهذا ما وضع في إطار الاستثمار السياسي، خصوصاً أن إدارة المستشفى تعتبر حالياً من حصة القوات اللبنانية.
وفي ظل غياب الخطاب المحلي، لا يملك التيار سوى خطابه عن “ما خلونا”. أي ادعاؤه عرقلة مقصودة تعرض لها العهد لمنع الإصلاح. فيما بات الناس منهكين من الكلام عن التعطيل، بقدر تعبهم من الحالة الاقتصادية. وخطاب العونيين هذا لا يمكنه أن يحسن من واقع تيارهم في زحلة، ولا في استجرار عطف الزحليين على رئيس الجمهورية “المضطهد سياسياً” برأي العونيين. فصورة “الرئيس القوي” تلاشت خلف سطوة صهره على الـ”حزب”، من دون أن ينجح الصهر في استمالة الزحليين. بل ظلت “فوقية باسيل” تعرضه لانتقادات، تستسهل تحميله مسؤولية بعض العبء الذي تعانيه المدينة، ومن ضمنه عبء كهرباء زحلة التي يتهمه البعض بتقاسم أرباحها من الفواتير المرهقة للزحليين. وحتى لو كان البعض مقتنعاً بعدم صحة هذه الاتهامات. فالجو العام يسهِّل رشق باسيل بأي تهمة. وخصوم التيار في المدينة يبرعون في تزكية هذه الاتهامات. وهذا يضع باستمرار عونيي زحلة في موقع الدفاع عن النفس، ويلهيهم عن معركتهم الأساسية لاستعادة ثقة الزحليين، الذاهبة إلى مزيد من التلاشي.
المصدر: المدن