تحت المجهر

القضاء العسكري: ممنوع التصدّي للحزب

أصدر عضو محكمة الجنايات القاضي شادي قردوحي حكمه على القضاء اللبناني بأنّه في “حالة موت سريري” لأنّ القانون “ممنوع تطبيقه بحقّ أصحاب النفوذ حتى في جنايات القتل العمد، وهو ما يتيح الإفلات من العقاب لِمَن يحظى بغطاء هؤلاء، فيما يُطبَّق القانون على الضعفاء”. وذلك في نصّ كتبه على فيسبوك، كشف خلاله عن جوهر ما يعانيه اللبنانيون مع الجسم القضائي. بحيث بات الظلم يتمدَّد ليشمل المزيد والمزيد من الشرائح التي يقع عليها الظلم الأمنيّ والسياسي، الأمر الذي يستدعي “ثورة قضائية لاجتثاث الفاسدين”.

ما يظهر في سلوك القضاء العسكري هو رسالة واضحة على الجميع فهمها مفادها أنّ من يواجه حزب الله ستتم محاكمته. يُوحي أنّ المطلوب هو أن يُقتل الناس بصمت، فلا الأجهزة الشرعية تحميهم ولا يُسمَح لهم بالدفاع عن أنفسهم، وكأنّها تشرِّع سلوك “حزب الله” بإشهار القتل المعلن

ماذا قال وفعل القاضي قردوحي؟

بعدما بلغ القرف منتهاه لدى القاضي قردوحي، وقف على منبر محكمة الجنايات يوم الخميس 4 تشرين الثاني 2021، معلناً أمام الجميع اعتكافه عن حضور جلسات محكمة الجنايات، كاشفاً عن مخالفات قضائية كبيرة. ثمّ كتب على صفحته على “فيسبوك” الآتي: “أنا القاضي شادي قردوحي أعلن اعتكافي عن حضور جلسات محكمة الجنايات المنتدب لها لحين مراعاة أحكام القانون وعدم التمييز بين ضعيف ونافذ، إذ إنّ ضعيفاً ارتكب جرم سرقة درّاجة نارية نحكمه بالأشغال الشاقّة لثلاث سنوات، فيما متّهمٌ بجناية قتل قد يفلت من العقاب بسبب نافذ أو نفوذ مستتر… القضاء بحالة موت سريريّ في لبنان، الانتفاضة القضائية يجب أن تتحوّل إلى ثورة قضائية لاجتثاث الفاسدين”.

من المفيد الإشارة هنا إلى أنّ رئيس محكمة الجنايات بالتكليف هو القاضي كمال نصار، الذي حلّ مكان القاضي محمد مرتضى، وزير الثقافة المسمّى من الثنائي الشيعي.

في محكمة الجنايات، التي كان يرأسها “القاضي الوزير” وانتفض فيها “القاضي الثائر” شادي قردوحي، إرثٌ ثقيلٌ من وطأة نفوذ “الأقوياء”، وهذا عمليّاً هو رأس جبل الجليد، وما خفي لا شكّ أعظم.

تجلّيات هيمنة القوّة على القضاء

إنّ حالة هيمنة “الأقوياء” على القضاء، التي كشفها القاضي قردوحي، هي في الواقع حالة عامّة لا تنحصر فقط في محكمة الجنايات، وإن كان هذا “القاضي الثائر” قد كشف إلى العلن ما يراه أكثريّة اللبنانيين، لكنّهم يعبّرون عنه من خارج المؤسسة القضائية. وهو يتجلّى بشكل أكثر افتضاحاً في المحكمة العسكرية، وأمامنا نموذجان حاضران لا يستطيع منصفٌ أن يتجاهل خطورتهما على منطق العدالة، بل على منطق الدولة ككلّ.

1- أحداث خلدة: ملاحقة الضحيّة وتجاوز المجرم

النموذج الأوّل لغياب منطق العدالة وإقرار استقواء الأقوياء، هو كيفيّة تعاطي القضاء العسكري مع أحداث خلدة منذ بدايتها مع الاستفزازات المذهبية البشعة التي دأبت عليها مجموعات “حزب الله”، ثمّ اغتيال الفتى حسن غصن في 29‏ آب 2020، وتغاضي الأجهزة الأمنيّة والقضائية عن ملاحقة قاتليه، وتحديداً المتّهم بالقتل علي شبلي، القيادي في “حزب الله”، ثمّ مقاربة كلّ ما جرى من استفزازات بعد الثأر الذي قام به أهل غصن، وما رافق تشييع شبلي من هجمات مسلّحة معلنة بالأسلحة الفردية والمتوسّطة في وضح النهار، والكشف الكامل عن التجهيزات المسبقة لأحداث خلدة.

الأخطر في قضية أحداث خلدة هي تلك الدائرة الموسّعة في التحقيقات لتشمل فقط أبناء عشائر خلدة، فيصدر القرار الظنّيّ بحقّهم طالباً أحكاماً تصل إلى الإعدام والمؤبّد. الأمر الذي دفع الشيخ طارق مزهر عضو هيئة علماء المسلمين وابن المنطقة إلى التعليق على هذا الظلم البائن بالقول: “في الهجوم على أهل خلدة سقط من المهاجمين 6 قتلى بنيران يمكن أن تكون “نيراناً صديقة” أو صادرة عن طابور خامس أو عن أحد المدافعين عن منطقتهم وأعراضهم.. لكنّ المفارقة أنّ الـ21 موقوفاً، كيف استطاع القاضي أن يعتبرهم كلّهم مطلقي نار.. يعني يحاكم كل ثلاثة بواحد؟!”، وختم قائلاً: “الظلم واقع من كلّ الأطراف على أهل خلدة، مع العلم أنّ المهاجمين المدجّجين بالسلاح لم يُوقَف أحدٌ منهم.. هل هكذا يكون العدل والقانون؟”.

لا يمكن تسليم حقوق الإنسان لمحكمة استثنائية، لا يحمل “قضاتُها” كفاءة الاختصاص بالقانون، وهي تسهم في أحكامها الجائرة، وفي مماطلاتها الطويلة بالأحكام، في تشجيع الإرهاب وخلق البيئة الملائمة لتفجير الواقع اللبناني

2- “اشتباكات الطيّونة – عين الرمّانة”: وقاحة القتل على الهواء

النموذج الثاني في طغيان قوّة السلاح على القضاء هو “اشتباكات الطيّونة – عين الرمّانة”، حيث نقلت وسائل الإعلام على الهواء مباشرة عمليّات الاقتحام وإطلاق الرصاص والقذائف الصاروخية من قبل مسلّحي الثنائي الشيعي باتجاه المناطق السكنية، مع تأكيد أنّ تصدّي الجيش للمسلّحين غير الشرعيين أسفر عن مقتل عدد منهم، ومع غياب أيّ صورة لأيّ مسلّح في عين الرمّانة،. غير أنّ التوقيفات تركّزت بشكل كامل على شباب عين الرمّانة، فيما أُوقِف أربعة من مسلّحي الثنائي سرعان ما أُطلق سراحهم. لتستقرّ الصورة على ما يزيد على 18 موقوفاً من جانب عين الرمانة، وبينهم مَن يرقدون في العناية الفائقة مكبّلين بالأغلال، وعلى اتّهام مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي فادي عقيقي لثمانية وستّين شخصاً بارتكاب جرائم القتل ومحاولة القتل وإثارة الفتنة الطائفية في أحداث الطيّونة التي وقعت في 14 تشرين الأول 2021.

وفي أحداث خلدة، صدرت عن الأمين العامّ للحزب حسن نصرالله سلسلة تهديدات للجيش والقضاء بالتحرّك لمعاقبة مَن حدّدهم في لوائح اسميّة، تحت طائلة استعمال قوّته المباشرة للنيل منهم. ثمّ كان التدخّل السياسي من قبل تيار المستقبل لإقناع العشائر بتسليم شباب وردت أسماؤهم عمليّاً في لائحة الحزب، ليقع أبناء العشائر في شرك التوقيفات، ويتحوّلوا إلى شريحة جديدة يعلق أبناؤها في السجون.

دفن القانون وإطلاق شريعة الغاب

ما يظهر في سلوك القضاء العسكري هو رسالة واضحة على الجميع فهمها مفادها أنّ من يواجه حزب الله ستتم محاكمته. يُوحي أنّ المطلوب هو أن يُقتل الناس بصمت، فلا الأجهزة الشرعية تحميهم ولا يُسمَح لهم بالدفاع عن أنفسهم، وكأنّها تشرِّع سلوك “حزب الله” بإشهار القتل المعلن.

كان تركيب الملفات في مراحل سابقة يطول المسلمين السُنّة، وتحوّلت طرابلس وعرسال والمنية وعبرا إلى مسارح قتل جماعية تستكملها المحكمة العسكرية، وكان القضاء العسكري يلاحق المعارضين الشيعة، فيتحوّلون بين ليلة وضحاها إلى “عملاء للعدوّ”. أمّا اليوم فقد أصبح المسيحيون بدورهم ضحايا إضافيّين لسيطرة “حزب الله” على معظم مفاصل هذا القضاء، ليصحّ المثل القائل: “أُكِلتُ يوم أُكِل الثور الأبيض”.

المصدر: اساس ميديا

Show More

Related Articles

Back to top button