هناك شطبت صليبي، وهتفت: حي على الوطن! (بقلم عمر سعيد)
هناك شطبت صليبي، وهتفت: حي على الوطن!
لا يعرف الحزن إلا من كابده، ولا يعرف البكاء إلا من جفت دموعه على خطا من ابتعدوا، ولا يعرف الوجع إلا من لا زال جرحه مفتوحًا على من سكنوا الظلام، لينجو الوطن، ولا يعرف الموت إلا من حملت أكفه نعوش أحبائه، ولا يعرف الصراخ إلا من مزق صوته مرفأ يشتعل بالوداع.
لذا كان اللقاء هناك، حيث كانت الإغفاءة الأخيرة.
ولأنهم هم أشد من خبر الخسارات الموجعة، ولأن أحزانهم تليق بمن راحوا، ولأن موتاهم لا يموتون، ولأن صراخهم له عناد رياح الشتاء في هذا الوطن، ولأنهم هم البحر، هم الموج، هم الشاطىء، هم الأرز والجبل والوطن، كانوا أمس على موعد مع رمل رفض أن يغتسل من دمهم، مع حديد رفض أن يتزحزح لئلا يزعج من ناموا، مع شهداء توزعوا على مدى ديانات وأحزان هذا الوطن الذي لا يؤمن بغير الألم والتحمل ومحاولة النهوض إثر كل سقوط.
هناك حضر الذين راحوا، أتوا ينسلون من بين الدخان والغبار والنار والعويل والدماء والبكاء، تسللوا بين الحضور، صفقوا لأنفسهم على عام من الغياب، هتفوا كما يهتف الأحياء:
“وحياة اللي راحوا، رح تتحاكموا”
هناك في لحظة وجع، لحظة جوع، وعطش وضعف، ما عدت أعرف إن كنا نقف معهم، أم أنهم كانوا معنا يقفون!
هناك كنا جميعًا نحن السفينة، والبحارة، والمرفأ، والوقت قبيل الانفجار، نعمل، نجد، نركض، نصرخ في كل اتجاه، نحاول ألا يضيع الوطن، ولا همّ أن نموت.
هناك اكتشفت طعم الموت، وأصعب الموت أن تموت، وقد أضعت قبرك وأهلك والوطن.
أفقت من موتي على وجوههم المعفرة بالتراب، والزجاج، والدماء.
هناك أدركت أنهم هم من يقفون معنا، لا نحن، وأعظم الوِقفات وِقفة شهيد أصر الوقوف على خطوط الحياة.
ثم رأيتهم يغادرون شوارعهم، أحياهم، أسرهم، وطنهم، وقد ظل طفل يقبض على آخر حلوى اشتراها له أباه، وأم تقبض على رحمها الذي ما عاد ينجب، وزوجة تسخن آخر ما تبقى من طعام لزوج أخرت رجوعه زواريب السياسة، وابنة تمسح الغبار عن بقايا ملابس أب لن يعود بهدايا العيد، وحبيبة تسرح شعرًا لوسادة برأس وحيد، وأهل أجلسهم الصمت والعجز وهول ما حدث.
هناك رأيت ألكسندرا وقد أتقنت أبجدية الألم قبل أبجدية الكلام، لم تسل عن أسباب ما حصل، راحت تفتش عن مدرستها، وصفها، ورفاقها الصغار، عن أبيها الذي يداوي جرحه بالاستمرار والسعي خلف الحب، يقبض على كفها طول الطريق.
هناك أدركت معنى أن تقف على قبرك، تقرأ الفاتحة لنفسك، تصلي على نفسك، تسقي ورود قبرك بدمع لا يسحه سواك..
هناك عرفت أن الوطن ليس للذين أتوا من وراء الحدود، ومهما أقاموا فيه، لأن الوطن للذين أفاقوا من تحت التراب ومهما أطالوا النوم، يستيقظون على أول عطر يلامس شواهد قبورهم، يهمس أن أفيقوا.
هناك شطبت صليبي، وكبرت:
” حي على الوطن! ”
عمر سعيد