عقد الفيول: لماذا أدخل لبنان نفسه في معمعة سوق الـHSFO؟
بلدٌ غارقٌ في الأزمات يجد نفسه فجأة بحاجة إلى تعيين خبير في أحد أصعب أسواق المنتجات البترولية، لتصريف مليون طن من زيت الوقود الثقيل (HFO)، أو ما تسمّيه وزارة النفط العراقية “النفط الأسود”. إنّه لبنان!
هيكل الصفقة بين بيروت وبغداد لا مثيل له في أسواق النفط. دولة تشتري وقوداً لا تحتاج إليه لتبادله بوقود من نوعيّة مختلفة لتشغيل معامل الكهرباء، والمقابل سلع وخدمات يقدّمها أطراف آخرون!
المشكلة قد لا تكون في غرابة العقد، بل في دخول لبنان في مجال ليس له سابق خبرة فيه. إذ بات يتعيّن عليه إيجاد سوق للفيول العراقي الثقيل، وتلك مهمّة ليست بالسهولة التي تبدو على ألسنة المسؤولين المبتهجين.
زيت الوقود الثقيل، الذي سيشتريه لبنان، يُعتبر من فضلات عملية تكرير النفط (residuals)، ولذلك فهو يباع بأقلّ من سعر النفط الخام بكثير، خلافاً للمنتجات البترولية الأخرى العالية القيمة، مثل البنزين والكيروسين ومدخلات الصناعات البتروكيماوية، التي تباع بعلاوة على سعر الخام.
ويُستخدَم زيت الوقود الثقيل في الغالب وقوداً للسفن، أو ما يعرف باسم زيت الوقود العالي الكبريت (HSFO). وهذا السوق شهد متغيّراً كبيراً في مطلع العام الماضي، مع بدء تطبيق المعايير الجديدة للمنظمة البحرية الدولية، المعروفة اختصاراً باسم “IMO 2020”. وأهمّ ما فيها خفض الحدّ الأقصى لتركُّز الكبريت في وقود السفن من 3.5% إلى 0.5%، فتحوّل جزء كبير من أسطول السفن إلى زيت الوقود المنخفض الكبريت (LSFO)، إلا إذا شاء ملّاكها تركيب فلاتر لتخفيف الانبعاثات، وتلك عملية تتطلّب وقتاً واستثمارات ليست بالقليلة.
وتتوقّع وكالة الطاقة الدولية أن يتقلّص سوق زيت الوقود العالي الكبريت في نهاية الأمر إلى الثلث نتيجة المعايير الدولية الجديدة، انخفاضاً من نحو 3 ملايين برميل يومياً قبل جائحة كورونا. لكن حتّى الآن، لا تزال أسعار زيت الوقود الثقيل متماسكة إلى حدّ معقول. وتشير توقّعات بيت الخبرة المعروف “بلاتس” إلى أنّ
الفارق بين سعره وسعر زيت الوقود الأعلى جودة قريبٌ من 125 دولاراً للطن الواحد على مدى العامين المقبلين، فيظلّ من المجدي للسفن تركيب فلاتر لتقليص الانبعاثات بدلاً من تغيير نوع الوقود.
كلّ هذه التفاصيل الفنّية تقود إلى أسئلة بدهيّة: لماذا أدخل لبنان نفسه في معمعة سوق الـ HSFO؟ وهل كان المسؤولون يدركون ما فيه من متغيّرات وتحدّيات؟ وإذا كان تصريفه سهلاً إلى هذا الحدّ، فلماذا لا يبيعه العراق ويسدّد ثمن “الخدمات الاستشفائية والسلع” للبنان بالعملة الصعبة، ويتولّى لبنان استخدام تلك العملات الصعبة لشراء الفيول الذي يحتاج إليه؟
أدخل لبنان نفسه في آليّة شديدة التعقيد ومتعدّدة الأطراف إلى حدّ مثير للعجب: الدولة اللبنانية (وزارة الطاقة)/ الدولة العراقية/ مصرف لبنان/ المستشفيات ومصدِّرو السلع في لبنان/ شركات تجارة النفط. وكلٌّ من هذه الأطراف قادرٌ على إفشال الصفقة برمّتها. ماذا لو رفضت المستشفيات اللبنانية تقاضي مستحقّاتها على الدولة العراقية بالليرة؟ ماذا لو لم تجد الدولة اللبنانية عروضاً معقولة لتوريد الفيول بالمواصفات التي يحتاج إليها لبنان مقابل زيت الوقود العراقي؟ ماذا لو لم يتمّ الاتفاق مع مصرف لبنان على سعر صرف مرضٍ لجميع أطراف الآليّة؟ لأجل أيّ شيء كلّ هذا التعقيد؟
بالنسبة إلى العراق، الاستفادة واضحة، فبدلاً من أن يحوِّل عملات صعبة إلى لبنان لسداد فواتير الخدمات والسلع، يعطي لبنان شيئاً من “فائض” عملية تكرير النفط، ويترك له تدبّر أمر تسويقه. أمّا استفادة لبنان المعلَنة فهي “عدم المسّ باحتياط مصرف لبنان”، وتلك مسألة تحتاج إلى تدقيق. فإذا صحّ أنّ المصدّرين اللبنانيين ومقدّمي الخدمات الاستشفائية موافقون على قبض مستحقّاتهم العراقية بالليرة، كما قيل، فما الحاجة عندئذٍ إلى كلّ هذا التعقيد؟ فليتمّ تحويل الدولارات العراقية إلى الليرة بنفس سعر الصرف الذي سيُعتمد في الآليّة العقيمة، ولتذهب الدولارات إلى مصرف لبنان لتعزيز احتياطاته ضمن آلية محدّدة، من أجل أن تُستخدم حصراً في شراء الفيول، ولا حاجة إلى إدخال النفط الأسود في هذه الآليّة. أما إذا كان المصدّرون والمستشفيات لا يقبلون القبض بالليرة، فلا معنى لكلّ هذا اللفّ والدوران.
أغرب ما في الأمر أنّ لبنان يُقبِل على هذه الآليّة العجيبة، وهو غارق في جدل يتناول الفساد في ملف استيراد الفيول لمعامل الكهرباء. وبدلاً من أن يبسِّط المناقصات، ويزيد الشفافية، إذا به يُضيف طبقة سميكة من الضبابيّة والتعقيد، وعلى الشعب أن يصدّق أنّ استبدال الفيول بالفيول سيتمّ بشفافيّة ونظافة، من دون أن يتلوّث أحد بـ”النفط الأسود”.
عبادة اللدن – اساس ميديا