قصة الجمهورية الإسلامية في لبنان
على عكس التاريخ اللبناني الذي تمت إعادة كتابته وتوزيعه عبر مواقع يمولها النظام الإيراني، مثل “ويكي شيعة”، لم يبدأ “حزب الله” مسيرته كحركة “مقاومة” ضد إسرائيل، فالعملية العسكرية الأولى التي شنها الحزب المذكور ضد أهداف إسرائيلية كانت بعد “الاجتياح الثاني”.
“حزب الله” تأسس بهدف اقامة “جمهورية اسلامية” في لبنان، وتصرّف في أولى سنواته كحزب يهتم ببناء شبكة مجتمعية إسلامية، وهي مرحلة غالبا ما يسميها الإسلاميون مرحلة “التمكين”، كانت خلالها سياسة الحزب مترفعة عن السياسة اللبنانية ومتكبرة عليها، ففي وقت كان لبنان ينقسم إلى شرقية مسيحية وغربية مسلمة، رفع “حزب الله” شعار “لا شرقية ولا غربية جمهورية إسلامية”.
“حزب الله” انهمك آنذاك في أسلمة المجتمع اللبناني، على غرار ما فعل النظام الإسلامي في إيران، فتم تفجير محال مبيعات الكحول أو اغتيال من يديرونها، واستهدفت حفلات الأعراس ذات الموسيقى الصاخبة بمتفجرات صوتية، وتعرضت النساء من غير المحجبات أو ممن يلبسن ألبسة “غير شرعية” إلى الضغط المجتمعي الذي وصل حالة العنف اللفظي والجسدي.
لهذه الأسباب، لم يكترث الحزب الموالي لإيران لاتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية عام 1990، بل عارضه، على عكس الإجماع اللبناني، وهو ما عزل “حزب الله”، وأجبره على المشاركة الخجولة في انتخابات 1992، وكانت تلك تجربة بهدف البقاء السياسي.
نظام الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، الذي كان فاز بوصاية بموافقة دولية على لبنان، كان لديه وظيفة للحزب المذكور، إذ هو أراد الحفاظ على ميليشيا لابتزاز الغرب عبر استهداف إسرائيل. لكن الأسد لم يكن مستعدا أن يكون للميليشيا أي ممول وراع عربي قد ينافسه على النفوذ في لبنان، من أمثال صدام حسين العراقي ومعمر القذافي الليبي.
هكذا رأى الأسد في إيران راع لا ينافسه على لبنان، ولم يوافق الأسد على الإبقاء على سلاح “حزب الله”، إلا بعدما كان كرّس سيادته على لبنان مستفيدا من التصدي العربي لإيران كوسيلة لردعها في حال استقوت عليه.
التوازن الدقيق الذي أقامه حافظ الأسد، الذي كان معروفا بدهائه السياسي، بدأ مع إعلان إيران حملتها العسكرية لاحتلال البصرة العراقية عام 1987. العرب خشوا أن تكون البصرة مفتاحا لتوسع إيران عسكريا نحو الخليج، فرموا بثقلهم خلف صدام للتصدي لإيران، فتعثرت إيران.
في تلك اللحظة التي كان يتسابق فيها العرب وإيران على أصدقاء وحلفاء في المنطقة، استغل الأسد لحظة ضعف كل منهما، فاستند إلى العرب وأمر قواته باجتياح “ثكنة فتح الله” أو مقر قيادة “حزب الله” في بيروت، ونفذت قوات الأسد إعدامات ميدانية ضد عناصر الحزب.
وعندما هبّ المسؤولون الإيرانيون إلى دمشق لاستجداء الأسد لوقف اكتساحه الميليشيات الإيرانية في لبنان، أبقى الأسد الموفد الإيراني ينتظره في دمشق لأيام قبل أن يقابله. بعد ذاك، كرس الأسد أن “حزب الله” يعمل عسكريا في لبنان بتسليح وتمويل إيراني، وانما بتعليمات من دمشق حصرا.
وفي 1993، نسي “حزب الله” الترتيب المذكور، وحاول الاعتراض على مفاوضات السلام مع إسرائيل بتسييره تظاهرة قرب “جسر المطار”، فما كان من وزير الداخلية اللبناني، الذي كان يعمل بأوامر الأسد، إلا أن أمر بإطلاق النار، ما أودى بحياة تسعة لبنانيين من مناصري الحزب، وأكد الأسد أنه لو أراد لسوريا ولبنان توقيع سلام مع إسرائيل، فكان سيكون ذلك على الرغم من أنف “حزب الله” وإيران.
اليوم صرنا نعرف أن الأسد لم يكن مهتما يوما بالسلام، إذ هو نظام يعتاش على الأزمات، وهو استخدم “حزب الله” لابتزاز الولايات المتحدة عبر استهداف إسرائيل، ويقول مبعوث السلام السابق، دينيس روس، في كتابه، إن الأسد وافق مرة على كبح “حزب الله”، بطلب أميركي مقابل تنازل أميركي للأسد في موضوع آخر.
الأسد الابن لم يكن سر أبيه، ولا هو أدرك مكامن قوة نظام العائلة بالإفادة من العداء بين العرب وإيران، بل هو تكبر على العرب وابتعد عنهم، فاحتضنته إيران حتى خنقته، ولم تكد تنقضي السنة الخامسة على وفاة الأسد الأب، حتى أجبر اللبنانيون والعالم الأسد الابن على سحب قواته من لبنان، وفهم “حزب الله” أنه تولى الحكم اللبناني، وأقام مهرجان “شكرا سوريا”، الذي كان الأجدى تسميته “وداعا لوصاية الأسد على لبنان”.
أخذ “حزب الله” لبنان معه إلى أحضان إيران و”محور المقاومة”. هذه المرة، لم يعد “حزب الله” مهتما بإقامة “دولة إسلامية” اجتماعيا، بل هو استنسخ النموذج الإيراني الذي صار بموجبه زعيم الحزب حسن نصرالله مرشدا أعلى للبنان، على غرار إيران ومرشدها علي خامنئي.
أما الأهم، فهو أن نصرالله استنسخ للبنان “اقتصاد المقاومة” الإيراني، وهذا اقتصاد مبني على فكرة الاكتفاء الذاتي، وتأسيس وحدة اقتصادية مع الاقتصادات المتهالكة الحليفة، مثل إيران واليمن وفنزويلا، وعزل لبنان عن الاقتصاد العالمي كوسيلة للاستقلال عن الغرب والإمبريالية والنظام العالمي بأكمله.
هذا النموذج الاقتصادي لم يكن صدفة أو وليد الظروف، ففي دستور الجمهورية الإسلامية في إيران أن “الأصل في مجال ترسيخ الأسس الاقتصادية هو سد حاجات الإنسان في مسير تكامله ورقيه، لا كما في سائر النظم الاقتصادية التي ترمي إلى جمع الثروة وزيادة الربح”.
وينتقد الدستور الإسلامي الإيراني “الاقتصاد في المذاهب المادية” لأنه “غاية بحد ذاته… بينما الاقتصاد في الإسلام مجرد وسيلة، والوسيلة لا يطلب منها إلا العمل بأفضل صورة ممكنة لبلوغ الغاية العليا”. وبناء عليه، يضيف دستور “ولاية الفقيه”، يجب “على الحكومة الإسلامية أن تؤمن الإمكانات اللازمة بصورة متساوية، وأن توفر ظروف العمل لجميع الأفراد”.
يستعير دستور إيران الإسلامية من المبادئ الماركسية للمساواة، لكنها استعارة جاءت يوم كانت إيران من أقوى اقتصادات العالم. ربما اعتقد الملالي المؤسسون، الذين نصّبوا أنفسهم اقتصاديين، أن الثروات متوفرة من تلقاء نفسها في إيران، وأن كل ما عليهم فعله هو إعادة توزيعها على الناس، وأن لا حاجة للانهماك بمسألة نمو الاقتصاد التي تتطلب أكبر انفتاحا ممكنا على العالم، بما في ذلك الغرب، على غرار ما كانت تفعل حكومة شاه إيران الراحل. أما نتائج الاقتصاد الإسلامي في إيران ولبنان، فعزلة وفقر وجوع، ومزيد من العزلة والفقر والجوع.
حسين عبدالحسين – الحرة