تحت المجهر

لبنان والعاصفة المالية الكبرى

في المؤتمر الاقتصادي الذي نظّمته مؤسسة المديرين التنفيذيين الماليين الدوليين اللبنانيين (LIFE) في السابع من آب/أغسطس الماضي تحت عنوان “أمل أو ظلمة“، والذي ضمّ خبراء اقتصاديين ومسؤولين في الحكومة اللبنانية، بدت السردية التي عرضتها الدولة اللبنانية أقرب إلى العبثية. فقد أطلق مستشارون حكوميون ونواب توقعات اقتصادية وتطمينات غير مقنعة أظهرت كلها انفصالاً عن المؤشرات الواضحة للكارثة الاقتصادية التي تلوح في الأفق. اللافت، إلى جانب المشكلات المالية الأبعد مدى، أن الانخفاض المحتمل في التحويلات من الخليج قد يؤدي إلى إضعاف إضافي لقدرة المصارف على الاستمرار في تمويل الدين العام.

يتخبّط الاقتصاد اللبناني في المشقّات. فقد ظل النمو السنوي عند حدود 1 إلى 1.5 في المئة على امتداد العامَين 2017 و2018، وهي مسألة بعيدة المدى مرتبطة بالحرب السورية التي تسبّبت بتراجع الصادرات واشتداد مخاوف المستثمرين من عدم الاستقرار. إنه انخفاض كبير بالمقارنة مع نسبة النمو التي تراوحت من 8 إلى 10 في المئة قبل العام 2011. غير أن هذا النمو الضئيل يبدو غير ذي أهمية أمام معدل نمو الديون، الذي يُقدَّر بـ7.5 في المئة منذ أيار/مايو 2018، ما يعني أن لبنان لن يتمكن من تسديد ديونه عن طريق النمو الاقتصادي فقط. وهكذا أصبح معدل الدين إلى إجمالي الناتج المحلي في لبنان 157 في المئة اعتباراً من نيسان/أبريل 2018، وهو خامس أعلى معدّل في العالم. علاوةً على ذلك، فيما يعجز لبنان عن تسديد دينه العام – الذي بلغ 81.5 مليار دولار في شباط/فبراير 2018 – تُسجّل فوائد الدين ارتفاعاً ما يتسبّب باتساع العجز المالي الذي يُقدَّر حالياً بأكثر من 8.5 في المئة من إجمالي الناتج المحلي.1

حتى وزير المال علي حسن خليل المعروف عادةً بحفاظه على رباطة جأشه، حذّر، في نيسان/أبريل، من أن الدين العام في لبنان يشكّل تهديداً أكبر من الوضع الأمني في البلاد. وقد اتخذت المصارف خطوات للتخفيف من هذا الخطر، لا سيما عبر السعي إلى منع هروب الرساميل والحفاظ على المستوى الراهن من الودائع بالعملات الأجنبية عبر صك أموال إضافية لتمويل الديون – ما يخفف من الديون لكنه يتسبّب بتفاقم التضخم.2 بغية تشجيع الأشخاص على الادخار، ازداد متوسط أسعار الفوائد على الودائع بالليرة اللبنانية 95 نقطة أساس بين شباط/فبراير 2017 وشباط/فبراير 2018، لتبلغ نحو 7 في المئة. لا يؤدّي ذلك إلى ضخ مزيد من الأموال في المصرف المركزي وحسب، إنما يُثني أيضاً عن الإنفاق المرتفع الذي من شأنه أن يساهم في زيادة الواردات وبالتالي استنفاد مستويات الاحتياطي بالعملات الأجنبية. لكن في حال سجّلت معدلات الودائع ارتفاعاً شديداً، فسوف يُفضي ذلك أيضاً إلى زيادة التضخم وثني الشركات الجديدة عن أخذ قروض من شأنها أن تحفّز النمو الاقتصادي الذي يشكّل حاجة ماسّة. وقد عمد المصرف المركزي إلى التشدد في شروط الإقراض، رداً على ارتفاع معدلات القروض المتعثّرة السداد الذي يشكّل انعكاساً للتخلف عن تسديد الديون.

لقد أحدث عدم الوصول إلى القروض، فضلاً عن تراجع ثقة المستثمرين الأجانب بالاقتصاد اللبناني، تأثيراً لافتاً على القطاع العقاري الذي يُعتبَر من الركائز الاقتصادية في البلاد. فهذا القطاع يسجّل تراجعاً مطرداً في غياب الوصول السهل إلى القروض، إلى جانب الأزمات السياسية والاقتصادية السائدة التي تُثني عن الاستثمار في لبنان. لقد سجّل تشييد المباني الجديدة تباطؤاً دراماتيكياً: فقد تراجعت المساحة الإجمالية للأراضي التي سيتم تطويرها بموجب أذون البناء المسجّلة الجديدة بنسبة 23.9 في المئة في الفصل الثاني من العام 2018بالمقارنة مع الفترة نفسها في العام 2016. في مواجهة هذه الضغوط، أعلنت شركة “سايفكو” – وهي من كبريات الشركات العقارية اللبنانية، وتُقدَّر قيمة مشاريعها بمليارَي دولار أميركي – إفلاسها في أيار/مايو 2018.

وفقاً لتقرير صدر عن البنك الدولي في نيسان/أبريل 2018، تعود هذه المشكلات، في جزء منها، إلى تحديات التمويل البعيدة المدى، إنما أيضاً إلى الأزمة التي نشأت في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي بين السعودية ولبنان. ففي الرابع من تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، تلا رئيس الوزراء سعد الحريري بياناً متلفزاً من الرياض أعلن فيه استقالته من منصبه، معللاً ذلك بالنفوذ الذي تمارسه إيران عن طريق حزب الله، والذي يجعل من الصعب عليه أداء مهامه من دون الخوف من التعرض للاغتيال. سرعان ما سلك الوضع منحى تصاعدياً مع توجيه اتهامات إلى السعودية بأنها تحتجز الحريري رهينة. فردّت السعودية بالتهديد بطرد الرعايا اللبنانيين الذين يعملون في المملكة ودول الخليج الأخرى، وسحبت استثماراتها من لبنان. ومن خلال التدخل الفرنسي، تمكّن الحريري وأسرته من مغادرة السعودية، وقد تراجع عن استقالته في الخامس من كانون الأول/ديسمبر ما أفضى إلى تهدئة الأوضاع، إلا أن التشنجات ظلت مرتفعة.

كذلك تؤثّر التشنجات بين السعودية ولبنان في التحويلات من الخارج. يساهم العمّال اللبنانيون في الخليج بنحو خُمس إجمالي الناتج المحلي اللبناني، ما يجعل منهم مصدراً حيوياً للودائع التي تستخدمها المصارف لشراء مزيد من الديون. لقد ساهم نحو 400000 مغترب لبناني في الخليج – نصفهم في السعودية – بما نسبته 43 في المئة3 إلى 60 في المئة من مجموع التحويلات في العام 2015، بيد أن مجموع التحويلات انخفض بنسبة 7 في المئة في العام 2017. ويُتوقَّع تسجيل تراجع إضافي هذا العام، فيما تقوم السعودية بإعادة هيكلة اقتصادية غير مسبوقة بموجب “رؤية المملكة 2030” من أجل تأمين مزيد من الوظائف للمواطنين السعوديين. يُشار في هذا السياق إلى أن الضرائب المتزايدة التي تُفرَض على أذون الإقامة الأجنبية في السعودية تُقلّل من الفرص الوظيفية المتاحة أمام اللبنانيين. كذلك تواجه دبي، الذي تشكّل وجهة أخرى للعمال اللبنانيين، تباطؤاً في النشاط الاقتصادي وارتفاعاً في البطالة الإجمالية، ما سيؤدّي إلى تراجع الفرص المتاحة أمام الرعايا الأجانب عموماً. على الرغم من أن التحويلات لا تزال تصل باطراد من المناطق الأخرى، إلا أن الأموال التي يجنيها العمّال اللبنانيون في الخليج ستستمر في التراجع على ضوء هذه النزعات.4

كذلك تؤثّر التشنجات في القطاع السياحي، الذي يُعتبَر أيضاً من القطاعات الأساسية التي تولّد إيرادات في لبنان. فقد كان أصلاً في حالة تراجع بسبب الهواجس الأمنية والأسعار المرتفعة التي تعتمدها شركات الطيران والفنادق، بعدما كان قد بلغ الذروة مع 2.2 مليونَي زائر في العام 2010. ومنذ اندلاع التشنجات مع السعودية، سُجِّل أيضاً تراجع حاد في العائدات السياحية التي يولّدها الزوّار الخليجيون الذين ينفقون مبالغ مالية طائلة أثناء وجودهم في لبنان. فقد انخفض الإنفاق من قبل السياح السعوديين بنسبة 21.4 في المئة في النصف الأول من العام 2018 بالمقارنة مع الفترة نفسها في العام 2017. كما انخفض مجموع الزوار من السعودية بنسبة 21.1 في المئة بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي، وتراجعت أعداد الزوار القادمين من الإمارات بنسبة 32.2 في المئة.

نظراً إلى أن القطاعات الثلاثة الأساسية التي تولّد إيرادات في لبنان – العقارات، والسياحة، والتحويلات المالية – هي في حالة تردٍّ خطير، إلى جانب الديون المرتفعة والثقة المتراجِعة بالقطاع المصرفي، قد يكون الإفلاس وشيكاً. ومن غير المرجّح أن تساهم المساعدات الدولية في تجنُّب الإفلاس، حتى في المدى القصير. في نيسان/أبريل 2018، تعهّد المانحون الدوليون في اجتماع عُقِد في باريس باستثمار أكثر من 11 مليار دولار في لبنان، لكنهم اشترطوا لصرف المساعدات تطبيق إصلاحات اقتصادية صارمة لا يمكن وضعها حيز التنفيذ من دون وجود حكومة فاعلة – والتي لا يزال تشكيلها متعثّراً بعد خمسة أشهر من إجراء الانتخابات النيابية، وذلك بسبب المشاحنات السياسية. كذلك خصّص البنك الدولي استثمارات قدرها 2.2 مليارَي دولار للبنان بغية إنفاقها على استحداث الوظائف، والخدمات الصحية، ومشاريع النقل التي تتطلب جميعها موافقة الحكومة قبل صرف الأموال.

لقد حاول رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري الالتفاف على الموافقة الحكومية عبر تقديمه اقتراحاً، في 24 أيلول/سبتمبر، بأن يُسمَح لمجلس النواب بإقرار التشريعات الطارئة، لكنه لم يتمكن من وقف المشاحنات لفترة كافية من أجل مناقشة الاقتراح، فما بالكم بالتصويت عليه. في الوقت الراهن، يبدو أن النخبة السياسية هي أكثر تركيزاً على انتزاع حقائب وزارية مهمة في الحكومة المقبلة، مهما استغرق الأمر من وقت، بدلاً من التعجيل في عملية تشكيل الحكومة كي يتمكّنوا من العمل على تصحيح الاقتصاد. قال نائب رئيس مجموعة البنك الدولي لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فريد بلحاج، متحدثاً عن غياب التقدم في موضوع الإصلاح الاقتصادي، في تموز/يوليو: “يتحدّى لبنان قوانين الجاذبية منذ بعض الوقت“.

يبدو أن لبنان سيدرك، في المستقبل القريب، أنه ليس بوسعه أن يهزم قوانين الجاذبية. والسبيل الوحيد لإنقاذ البلاد هو بناء المؤسسات السياسية، وفي شكل خاص تشكيل الحكومة التي تستطيع بدورها أن تُعطي الأولوية للإصلاحات.

تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.

منى علمي – middle east transparent

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button