أحزاب السلطة تنسج المؤامرة للإجهاز على الثورة
تعدّ الزعامات والأحزاب مكيدة للناس تهيؤاً لمرحلة ما بعد كورونا. السلطة، الفعلية في الحكومة وشريكتها في البرلمان، سبق أن استعادت المبادرة مع بدء موجة الفيروس وإجراءات التعبئة العامة. أخلت الاعتصامات، حوّرت الصراعات، وحوّلت الاهتمامات بعيداً عنها وعن فسادها وعجزها.
هذا ما حصل فعلياً في الشهرين الأخيرين. فمنذ أواخر شباط، نعمت السلطة بالساحات الفارغة وعدم تصاعد أصوات المعترضين ولا الثوار. اتّخذت قرارات متسلسلة وتدريجية تطبيقاً لإفقار الناس، وفرض المزيد من القيود على حساباتهم المصرفية. قطعت الدولار من الأسواق، أقفلت حسابات ورمت ورقة المساعدات الوضيعة، علّها تُسكت ما في قلوب الجوعانين. ادّعت الإصلاح وتسهيل الأمور، فأقرّت إمكانية سحب المودعين الصغار لأموالهم شرط إقفال حساباتهم. دار هؤلاء حول أنفسهم وعادوا واصطدموا في الواقع نفسه: المصارف، بفعل الغطاء السياسي، تمنع عنا دولاراتنا. ولا حقيقة غير ذلك.
وقاحة سياسية
استعادت الأحزاب والزعامات المبادرة، فعادت لتطلّ على الشاشات بلا خجل. سيطرت مجدداً على محاور البرامج السياسية، وعاد المذيعون إلى الإصغاء. يطرحون أسئلتهم بخجل، ولا من مداخلة شافية تخرج من هنا أو هناك لتعيد تحجيم المتحدّثين. علّها على الأقل تحدّ ولو قليلاً من وقاحتهم. وتدريجياً صوّبت هذه الأحزاب النقاش كما يحلو لها، بماكينات وشخصيات إعلامية، باتجاه العناوين التي مللنا منها منذ عقود: غبن طائفي، تحاصص مذهبي وتهديد الوجود. هذا على الأقلّ ما يمكن استخلاصه من تسويق سلسلة سيناريوهات تابعة للماكينات الإعلامية السلطوية.
سيناريو باسيلي
تسوّق الماكينة الإعلامية للتيار الوطني الحرّ لسيناريو إعادة تركيب تحالف 14 آذار في وجهه. وتقول الرواية الباسيلية أنّ عودة زعيم تيار المستقبل إلى بيروت، هدفها لم شمل ما سبق وانقطع مع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع. والهدف من كل ذلك، النيل من العهد. كأنّ النتائج التي قاد العهد البلاد إليها إلى اليوم لا تكفي للنيل منه، ولا كافية لإدانته. إن كان هذا هو العهد القوي، فكيف لو كان العهد ضعيفاً في أزمة مشابهة؟ لا نعرف. لكن لتعزيز الخوف لدى جمهوره ومن يدورون في فلكه، تسوّق أيضاً ماكينات التيار لفكرة أنّ أطراف وزارية مشاركة في الحكومة تستعدّ أيضاً للانقضاض على الرئيس جبران باسيل. خطة محكمة لإعادة ما انكسر مع بعض المسؤولين والأنصار. سيناريو باسيلي لدغدغة مشاعر “الخوف” المسيحي العام أيضاً.
الكلّ على الثورة
واستفادت هذه الماكينة من حركة قطع بعض الطرقات فور إعلان عودة الحريري إلى بيروت. “هذه الثورة مكشوفة، وهذا زعيمها، وهذه أحزابها”، تقول الماكينة. وفي المقابل، يستفيد تيار الحريري من هذه الدعاية لإعادة شدّ عصب شارعه الحزبي والتنظيمي الميت. وكذلك بالنسبة للزعامتين الأخريين. أضغاث أحلام، يعيشها الجمهور في هذه الحالة، مدفوع بحنين قاهر وخيبات لا تُحصى. هذه دعاية تخدم طرفي السلطة، الحاكمة منها وشريكتها في البرلمان. تنفيس ما تبقى من نفس ثائر، وإعادة الناس إلى المربّعات الأصلية، تحت عباءة هذا الزعيم أو جناح آخر. وإن كان لا بد من استنهاض لجماهير تلك الأحزاب والجمهور العام، فلا يمكن أن يكون ذلك إلا من باب إنهاء الثورة أولاً. ليعود كل من حيث أتى، وتعود بعدها الحياة السياسية إلى رتابتها وتقسيماتها ومحاصصاتها.
فالثورة، بالنسبة لهؤلاء، مجرّد “ملطشة”. يمكن تحميلها مسؤولية الانهيار الاقتصادي، وجعلها مرادفاً للانفلات الأمني، وتضييع المحاسبة الفعلية للفاسدين. هي “شغل سفارات” و”مؤامرة”. ملشطة تمسح بها الزعامات والأحزاب، السلطة عموماً، كل سوء ارتكبته. ضعف بنيانها يسمح بذلك، وكذلك تعدّد شعاراتها وغياب جدول أعمالها ومشروعها. تتحضّر السلطة للإجهاز على الثورة وما تبقى منها، وآخر ألعابها فبركة صراع سياسي جديد. صراع لا يعني الثورة ولا من فيها، لا بمحاوره ولا شعاراته وزيف ادّعاءاته. فالمطلوب الإجهاز على الثورة وثم إعادة وصل ما انقطع بين فرقاء السلطة وإرساء تسوية جديدة لعهد مستمر، أو آخر “قوي” أيضاً. منذ الساعات الأولى لـ17 تشرين نسجت السلطة، بمختلف أحزابها المؤامرات على الثورة والثوار، وتستكمل اليوم ذلك. أما الردّ على كل هذا فلا يكون إلا بإعادة صياغة نشيد “هيلا هو” مصحوباً بالتعبير الفعلي عن الجوع والكفر بالمنظومة الحاكمة: فلا تموت ثورة قامت ضد الطغاة، بل تزهر مع كل ربيع.
المصدر : نادر فوز – المدن