تحت المجهر

خديعة الهندسة المالية و مصير أموال المودعين

لؤي غندور – المدن

أبدى تكتل “لبنان القوي” قبل فترة حرصه الشديد على أموال المودعين. وللتذكير فقط.. وبالأرقام:

في النصف الثاني من ولاية الرئيس ميشال سليمان تعثّر مصرف مملوك من “أحد المقربين من الرئيس السوري”، فطُلِب من رياض سلامة إيجاد حل لإنقاذ هذا المصرف. وبالطبع، بذل سلامة قصارى جهده إرضاءً لسوريا، وطمعاً بزيادة حظوظه لتولي رئاسة الجمهورية. فطلب سلامة من المصرف إيداع ما تيسّر لديه من دولارات (دولارات المودعين) في حساب خاص لدى مصرف لبنان، مقابل فائدة سنوية 7 في المئة. ثم قام سلامة بإعطاء قرض كبير لهذا البنك بالليرة بفائدة 2 في المئة، مقابل أن يقوم البنك بإيداع كامل القرض نفسه في مصرف لبنان ليتقاضى عنه فائدة بقيمة 8 في المئة. وعملية القرض بالليرة تمت على الورق فقط، ولم يخرج المال فعلياً من مصرف لبنان، ولم يدخل إلى البنك المذكور. وبذلك يكون هذا البنك قد حصل على فائدة 7 في المئة؜ عن دولاراته، وعلى 6 في المئة (أي 8 في المئة؜ ناقص 2 في المئة) من قيمة القرض الوهمي بالليرة اللبنانية. وبعد ذلك، سُمّيت هذه العملية بالهندسات. واستفادت منها جميع المصارف، ولاسيما مصرف تابع لمرجعية سنيّة ومصرف آخر مُني بخسائر كبرى في بلد خارجي، فعوّض سلامة له هذه الخسارة عبر “الهندسات”. وبعد افتضاح الأمر، قام مصرف لبنان بإجراء عملية netting على نحو أصبحت المصارف المستفيدة من الهندسات تتقاضى 6 في المئة عن القروض الدفترية بالليرة، بدلاً من أن تقوم بدفع 2 في المئة وقبض 8 في المئة؜. علماً أن هذه القروض هي دفترية فقط، ومعطاة من المال العام وأموال المودعين. أي أن هذه المصارف تقاضت 6 في المئة؜ من مال عام، لا تملكه ولم تقترضه بصورة فعلية. بل اقترضت المال على الدفاتر المحاسبية من مصرف لبنان، بفائدة منخفضة، ووضعت المال ذاته لدى مصرف لبنان (دفترياً) لقاء فائدة مرتفعة.

قصة بنك العهد العوني
واستعمل رياض سلامة هذه “الهندسات” كطعم يرميه للمصارف، للاستحواذ على دولارات مودعيها، لكي يلبّي الطلب الزائد على المال من قبل الخزينة. واستحصل بالطبع على تغطية لهذه الهندسات من المرجعيات الكبرى، عن طريق المنافع والخدمات والقروض، وربما عبر تقديم بعض الهدايا، بالإضافة إلى التغطية الإعلامية التي باتت معروفة من الجميع.

وفي بداية العهد الحالي طلب القيّمون على العهد من سلامة إجراء “هندسات” لبنك التابع للعهد، لأنه لم يكن قد نال حصته منها كباقي المصارف، وذلك مقابل التجديد له في حاكمية مصرف لبنانز ولكن تبيّن ان هذا البنك لا يملك ما يكفي من الدولارات لوضعها لدى مصرف لبنان بفائدة 7 في المئة كما فعلت باقي المصارف، فقال لهم سلامة: “ما تحملوا همّ”، وقام ببيع البنك سندات خزينة بقية 110 مليار ليرة، ثم اشترى منه السندات ذاتها في اللحظة عينها بمبلغ 167 مليار ليرة ليحقّق البنك المعني ربحاً فورياً بقيمة 57 مليار ليرة من مال الشعب، مقابل لا شيء. وبعد ذلك، قام سلامة بتوضيب قرض دفتري (على الورق فقط) لهذا البنك بالليرة، لمدة عشر سنوات لقاء فائدة 2 في المئة؜ سنوياً، يدفعها البنك لمصرف لبنان. وقام بنك “العهد” هذا بإيداع القرض الدفتري الوهمي لدى مصرف لبنان (دفترياً أيضاً) لقاء فائدة سنوية 10.5 في المئة يدفعها له مصرف لبنان، فحقّق البنك 8.5 في المئة ربحاً من قيمة قرض وهمي من المال العام وأموال المودعين، ومن مال لا يملكه ولم يقترضه بشكل فعلي. وبذلك يكون حال البنك كحال من دخل إلى السوبرماركت ووجد عرضاً يقول له “اشتري قنينتين واحصل على الثالثة مجاناً”، فقام بأخذ القنينة الثالثة مجاناً من دون أن يشتري القنينتين الأخريين. ووفقاً لإحدى الصحف حقق البنك هذا من هذه العمليات حوالى 50 مليون دولار، وغطّى نفقاته التشغيلية لمدة ثلاث سنوات من المال العام. وها هو تيار “الإصلاح والتغيير” يدّعي اليوم الحرص الشديد على أموال المودعين!!

الاستحواذ على أموال المودعين
إذاً، هذه هي “الهندسات” التي تغنّى بها رياض سلامة. وللأسف، استحصل مصرف لبنان بنتيجة هذه الهندسات على 75 مليار دولار من أموال المودعين في المصارف، البالغة قيمتها الإجمالية 160 مليار دولار. وللأسف تبخّر حوالى 60 مليار دولار من هذه الأموال (أي من الـ75 ملياراً)، بعد أن قام مصرف لبنان بإعطائها لخزينة الدولة لتغطية عجز الكهرباء وغيرها من الصفقات. وبمعنى آخر، يكون رياض سلامة قد أغرى بعض المصارف بأرباح الهندسات، لكي يسلّموه أموال المودعين. وقام بوضع هذه الأموال في صحن الخزينة، ليقوم السياسيون وأزلامهم بسرقة الصحن. ويكون المصرف بهذا المعنى، كناطور المنزل الذي أتى إليه أحدهم وأعطاه قطعة شوكولا، وأخذ منه مفتاح المنزل، ثم قام بتسليم المفتاح إلى عصابة السرقة. وعندما عاد صاحب المنزل ووجده منهوباً ذهب إلى الناطور وسأله: “وين الأغراض”؟ فأجابه الناطور: “بحّ”. وبهذه الطريقة خسر المودعون حوالى 37 في المئة من ودائعهم. وخسرت المصارف أيضاً حوالى 37 في المئة من مجمل ودائعها.

والسؤال اليوم هو كيف ستعوّض المصارف هذه الخسارة وتحمي نفسها من الانهيار؟

العصبة كلها
الحل الوحيد هو قيام المصارف بإعادة تكوين رأسمالها عبر أحد طريقين: إمّا أن يقوم أصحاب المصارف بزيادة رأسمال مصارفهم من أموالهم الخاصة. وإما أن يقوموا بهذه العملية من أموال المودعين. وبالطبع، هم سيلجأون إلى الطريق الثاني. وهذا ما سوف يُعرف بالـhaircut أو الـbail-in، فتقوم المصارف باقتطاع نسبة من أموال المواطن، وتعطيه بالمقابل أسهماً لديها بالقيمة المقتطعة ذاتها. وبذلك يصبح المواطن المنهوب شريكاً بالإكراه لصاحب البنك. أي شريك للشخص الذي سرق أمواله، في حين تبقى أموال صاحب المصرف في الخارج وفي الأمان.

ولكي يستطيعوا تمرير الـhaircut أو الـbail-in، لا بد أن يقوموا بإدخال “خازوق” للمودعين عبر تشريع الـ”capital control”، وهذا ما بشّرنا به تكتل “لبنان القوي” اليوم. والـ”capital control” هو كذبة كبيرة، ستقوم السلطة من خلالها بتشريع السرقة التي قامت بها هي وأصحاب المصارف ورياض سلامة، فلا يعود بإمكان المودع مقاضاة المصرف عند امتناعه عن دفع المال.

ومن هذا المنطلق، يمكننا القول إن التصويب على المصارف بحد ذاتها سوف يؤدي إلى فرار المجرمين الحقيقيين من العقاب. وبالتالي، من الواجب ملاحقة أصحاب المصارف ورياض سلامة والسياسيين أساساً، الذين نهبوا الخزينة، وعدم الاكتفاء بملاحقة أحد هذه الأطراف دون غيره، لأنهم يشكلون عصبة واحدة مترابطة مع بعضها البعض.

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button