السفير السعودي الأسبق في لبنان يكشف أسرارا خفيت على الزعماء
هل هي الصدفة التي دفعت السفير السعودي الأسبق لدى لبنان عبد العزيز محي الدين خوجة إلى الكشف، الآن، عن أسرار تجربته الدبلوماسية في أصعب وأدق أيام عرفتها بلاد الأرز؟
من تركيا إلى روسيا والمغرب، تنقّل في مهامه الدبلوماسية حتى وصل عام 2004 إلى بيروت، حيث كان يتوقع أن يهنأ باستراحة المحارب بعد مسيرة دبلوماسية يصفها بـ”الثقيلة”، وإذ بالرياح تأتي بما لا تشتهي السفن.
“التجربة”
في كتابه الذي حمل عنوان “التجربة”، والصادر عن دار جداول للنشر والترجمة والتوزيع، سرد خوجة بأسلوبه الأدبي الشيق، تجربته الدبلوماسية في الدول التي كُلّف بتمثيل المملكة فيها قبل أن ينتقل عام 2009 إلى تولي منصب وزارة الثقافة والإعلام في الرياض.
146 صفحة من الـ 277 خصّصها لتجربته في لبنان، حيث أمضى خمس سنوات سفيراً لبلاده، وتعرّض لثلاث محاولات اغتيال بعد رابعة كان تعرّض لها في تركيا.
أسرار
وكشف السفير خوجة عن أسرار لم يطّلع عليها حتى سياسيين في لبنان، وسلّط الضوء على الدور الذي لعبته السعودية، وقارن بين دورها ودور إيران، شارحاً طبيعة علاقة بلاده بحلفائها، إذ تغيب التبعية على عكس العلاقة بين طهران وحلفائها في لبنان، ولإثبات مقولته، روى عن محاولته مع رئيس مجلس النواب نبيه بري التحضير لمؤتمر الرياض الذي هدف إلى تحقيق الإجماع على المحكمة الدولية وإقرار قانون انتخابي جديد ودائم، ومن ثم التوافق على رئيس للجمهورية، ووضع قواعد ثابتة وواضحة لتشكيل الحكومات، لكن الطعنة كما يقول، جاءته من أقرب حلفاء المملكة، وظنّ بعضهم أنه يجامل بري على حسابهم.
فظائع متبادلة
وعن الكتاب، يقول الوزير السابق والنائب الحالي مروان حمادة “منذ زمن لم نستمع إلى نظرة بعيدة وقريبة في آن، عن تلك المرحلة المفصلية من تاريخ لبنان”. وأكد حمادة لـ “اندبندنت عربية” أن السفير خوجة كشف عن أسرار لم نكن على اطّلاع عليها، كحقيقة العلاقة بين حركة “أمل” و”حزب الله” وحجم الهوة بين الأمين العام للحزب حسن نصر الله وبري، مضيفاً “الفظائع المتبادلة بينهما لم نكن على علم بها”.
وكتب السفير السعودي أن العلاقة بين “حزب الله” و”أمل” في السر مناقضة تماماً لعلاقتهما في العلن، وكشف عن حقيقة مشاعر نصر الله من بري منافسه داخل الطائفة الشيعية، ويروي أن نصر الله قال له يوماً “لا يمكن أن أستغني عن نبيه بري لكنني أيضاً لا يمكن أن أنسى أنه خلال الحرب الأهلية، أرسل لي شاحنة معبأة بجثث رجالي “.
ولم تقتصر علاقات ممثل السعودية في لبنان على جهة واحدة، ولا على طائفة معينة، حتى إنّ السعودية كانت من أشدّ الداعمين للجيش اللبناني في معركة مخيم نهر البارد، كاشفاً عن أن الملك عبد الله بن عبد العزيز أمر بدعم الجيش بالمال والسلاح وبتغطيته سياسياً، بينما كان حسن نصر الله يرسم خطاً أحمر دفاعاً عن “فتح الإسلام”.
وفي يوليو (تموز) عام 2006 بعد حرب إسرائيل على لبنان، كشف السفير السعودي عن أن المملكة كانت حاضرة بكل تعاطفها وما يمكن أن تقوم به من تحرك دبلوماسي دولي، وبلغ حجم تبرعها للبنان ملياري دولار بين ودائع لحماية الليرة اللبنانية وهبات للدولة لمعالجة آثار الحرب.
“لم نجد استجابة” من “حزب الله”
وكان خوجة يتردد دائماً إلى الضاحية الجنوبية لبيروت لزيارة حسن نصر الله الذي يصفه في كتابه بصاحب “كاريزما” وله شخصية جذابة وعنده اطلاع واسع على مجريات الأمور. حتى بعد اغتيال رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، شجع السفير خوجة حلفاءه في تحالف 14 آذار على التحالف الرباعي مع “أمل” والحزب في الانتخابات النيابية في منطقة بعبدا عاليه (ضواحي جبل لبنان). وقبل انكشاف دور الحزب في الاغتيال كما يقول، رتّب زيارات إلى السعودية لمسؤولين في “حزب الله” منهم نائب الأمين العام الشيخ نعيم قاسم، وأسمعتهم المملكة كلاماً واضحاً “لا أحد يريد إحراق لبنان، لا أحد يريد إلغاء الآخر، سلّموا سلاحكم للدولة وانخرطوا في الحياة السياسية بشكل طبيعي وأنتم تقدمون الهوية اللبنانية والعربية على الانتماء الإيراني” لكننا، يتابع خوجة في كتابه، “لم نجد استجابة”.
اغتيال الحريري
ويؤكد النائب مروان حمادة أن السعودية حاولت مراراً لبننة “حزب الله”، ويكشف عن أن الانفتاح على الحزب استمر حتى تثبيت تورطه باغتيال الحريري وتماديه لاحقاً بباقي الاغتيالات. وبحسب حمادة، فإن أسرار خوجة تكشف كم كان الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز قاسياً متصلباً من جهة في ما يتعلق بالمحكمة الدولية، وكم كان في المقابل مستعداً لإعطاء فرصة للحل في لبنان بجميع أبنائه.
وقدمت المملكة كل الدعم اللازم لإنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، ويكشف سفيرها عن أن فكرة إنشاء المحكمة لمعت في ذهنه بفضل حسن نصر الله حين اقترح عليه تأسيس محكمة عربية للنظر في جريمة الاغتيال، لكنه وتيّقناً منه بأنّ هذه الفكرة لن تصل إلى مكان، لأنّ الخلافات العربية ستخنقها، اقترح أن تكون دولية، وهكذا كان.
“سنحرق لبنان”
ويكشف خوجة أنه عندما التقى المعاون السياسي لنصر الله حسين الخليل وأبلغه بمشروع المحكمة الدولية، رد الخليل “إذا قامت المحكمة، فسنحرق البلد”، كلام حسين خليل وموقف السفير الإيراني لاحقاً محمد رضا شيباني الذي أعلن رفض المحكمة الدولية لأنها ستبقى كالمقصلة على رقابهم، جعلاه يدرك أنه يسير في الاتجاه الصحيح.
وبعد سقوط حكومة سعد الحريري الأولى وتولي الرئيس نجيب ميقاتي رئاسة مجلس الوزراء، اتصل به الملك وأبلغه بأن المحكمة الدولية خط أحمر ويجب الاستمرار في تمويلها وهكذا حصل.
الأسد… واغتيال الحريري
ويتهم خوجة في كتابه رئيس النظام السوري بشار الأسد باغتيال الحريري وبأنه أعطى الأمر لـ”حزب الله” للتنفيذ، وبأن إيران باركت الأمر والتنفيذ معاً، وفي أحد لقاءاته معه، صارحه نصر الله بالقول “رفيق الحريري وقّع وثيقة إعدامه عندما أمر بنزع سلاح المقاومة عام 1994”.
وهنا يكشف حمادة لـ “اندبندنت عربية” عن أن نصر الله ردّ على أسئلة رئيس الحزب الاشتراكي النائب السابق وليد جنبلاط الاستفسارية عن محاولة اغتيال حمادة التي كانت أول عملية تفجير قبل اغتيال الحريري، بالقول “طلب مني رستم غزالة (رئس جهاز الأمن والاستطلاع السوري آنذاك) سيارة مفخخة، لكنني لم أكن أعرف أنها كانت لاستهداف الوزير حمادة”.
الضباط الأربعة
في الكتاب، يكشف خوجة أن أحد القادة الأمنيين المسؤولين سياسياً عن اغتيال الحريري زاره في منزله متّهماً زملاءه الآخرين، ولاحقاً زاره ضابط آخر من الضباط الأربعة الأمنيين الذين أوقفوا بتهمة اغتيال الحريري، زاره ليبرّئ نفسه ويتّهم البقية.
لم يكشف خوجة عن الأسماء، أما حمادة، فكشف أن الضابط الأول كان علي الحاج والثاني ريمون عازار، والاثنين اتّهما مصطفى حمدان واللواء جميل السيد بالاغتيال وهما كانا مقرّبَيْن من النظام السوري.
محاصرة الرئاسة الثانية
ويروي سفير المملكة، ما يصفه بأصعب اللحظات التي مرت عليه خلال عمله سفيراً في لبنان، والتي كانت عند تبلغه معلومات عن اعتزام “حزب الله” بعد حرب يوليو، وخلال الاعتصام في الوسط التجاري ومحاصرة مقر الرئاسة الثانية (رئاسة الحكومة)، احتلال السراي الكبير “اتصلتُ ببري وأبلغتُه بصورة حاسمة بأن احتلال السراي خط أحمر وأنني مستعد للوقوف شخصياً أمام باب السراي ليكون اقتحامها على جثتي، أجابني بري… روق روق”.
يذكر حمادة تلك الليلة جيداً، فهو كان، ووزراء آخرون، محتجزين داخل السراي مع رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة وكانوا مقيمين فيها لعدم قدرتهم على التنقل من دون التعرض للاغتيال في تلك الفترة، وكانت وصلتهم إلى داخل السراي المعلومات بأن عناصر “حزب الله” ستدخل وتحتل السراي تلك الليلة، وتفرض على السنيورة الاستقالة.
الملك… اتصل داعماً
تكثفت الاتصالات على أعلى المستويات، وصدر موقف شديد اللهجة من قبل مفتي الجمهورية اللبنانية، وكان حمادة في مكتب السنيورة مع باقي الوزراء عندما اتصل الملك عبد الله بن عبد العزيز معلناً دعمه ووقوفه إلى جانبه، وطلب أن يتحدث مع الوزراء، كل بدوره، لإبلاغهم دعم المملكة وبأنها لن تسمح باحتلال السراي، المؤسسة الرسمية والمقر الرسمي لرئيس حكومة لبنان. ويكشف حمادة أن قائد الجيش ميشال سليمان أرسل وقتها فوج المغاوير لمساعدة القوى الأمنية في الدفاع عن السراي.
“حزب الله”… هو إيران نفسها
كنا نعتقد يقول خوجة “أنّ حزب الله ليس إيرانياً تماماً، بل له بعد لبناني وعربي يجعلنا نقف معاً وجميعاً على أرضية مشتركة أياً تكن مساحتها، لكن بعد اغتيال الحريري، وبعد حرب يوليو، وأحداث (مايو) أيار بالذات، اكتشفنا أن الحزب ليس حليفاً لإيران في لبنان، بل هو إيران نفسها، وربما كان أسوأ ما في إيران لأنه موكل بالسيطرة على لبنان والتسلط على إرادته وأهله، وموكل بخلخلة المجتمعات العربية وتدميرها”.
في 14 يوليو 2006، كان للسعودية موقف شهير قال السفير خوجة إنه أغضب نصر الله وصعّب مهمته كدبلوماسي، المملكة أعلنت بوضوح ضرورة التفرقة بين المقاومة الشرعية وبين المغامرات غير المحسوبة التي تقوم بها عناصر داخل الدولة، ومن ورائها، من دون الرجوع إلى السلطة الشرعية في دولتها، ومن دون تشاور أو تنسيق مع الدول العربية، ودعت إلى أن تتحمل هذه العناصر وحدها المسؤولية الكاملة عن هذه التصرفات غير المسؤولة.
وتظهر ذكريات السفير عبد العزيز خوجة في لبنان الدور الذي لعبته المملكة في قرار انسحاب الجيش السوري منه، وكان للسعودية الدور الأبرز . ويروي خوجة أن بشار الأسد زار المملكة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وأن الأمير (الملك) عبد الله بن عبد العزيز سأله بصراحته المعتادة عن سبب إقدام سوريا على اغتيال الحريري، فأجاب بشار أنه يجوز أن هناك أيادٍ لاستخباراته تصرفت من دون علمه، لم يصدق ولي العهد ذلك الإنكار، وقال “يُفترض الآن بسوريا الانسحاب الكامل والفوري من لبنان”، وأضاف “إما الانسحاب الكامل من لبنان وإما قطع العلاقات.”
“كذاب… كذاب… كذاب”
وعن التحول الكبير داخل سوريا من الوالد إلى الابن، وانتقال الأسد من الحضن العربي إلى الحضن الإيراني، يتحدث خوجة كثيراً، ويقول إنه منذ اغتيال الحريري إلى اندلاع الثورة السورية، كذب بشار الأسد في كل وعوده للمملكة بالابتعاد عن إيران وبعدم المس باستقرار لبنان، ويروي أنه في آخر زيارة للأسد إلى المملكة، قال له الملك “أنا أعرف عمك قبل والدك، حافظ كان صادقاً، لكن أنت كذاب كذاب كذاب.”
وعلى عكس كل التكهنات، لم تكن السعودية من شجّع الرئيس سعد الحريري على تولي رئاسة الحكومة، في أول حكومة ترأسها، ويكشف خوجة عن أن الملك عبد الله لم يرتح لتولي الحريري رئاسة مجلس الوزراء في تلك المرحلة الحساسة، ونصحه بصلاة الاستخارة. لكن حين صمم الحريري، نبّهه الملك “قد تجبرك الظروف على الاختيار الصعب بين الحكم وبين المحكمة الدولية، فاحذر! لا يمكن أن تكون على رأس حكومة وتطالب بإعدام أو سجن رئيس دولة أخرى، ستجبرك الظروف على التنازل”.
قيادات… وأبطال
خوجة الذي يصف قيادات سياسية ودينية بـ”الأبطال” كالبطريرك الماروني الراحل نصر الله بطرس صفير وفؤاد السنيورة ووليد جنبلاط ويبدي إعجابه بصلابة رئيس حزب القوات اللبناني سمير جعجع، يتحدث عن الرئيس ميشال عون بشكل مختلف ويقول “مع أن عون كان رجل دولة، إلاّ أنّه في سبيل السلطة، انحاز إلى الميليشيا ضد الدولة، كما انحاز إلى إيران ضد العرب. وفي مقارنة بين الرئيسين ميشال سليمان وميشال عون يقول خوجة “أي مقارنة بين الميشالين تنتهي لمصلحة سليمان، يكفي أن نقارن بين العهدين لنخلص إلى هذه النتيجة.”
التجربة الصعبة والمثقلة بالأحداث والتطورات في لبنان، يرويها الدبلوماسي بكل أمانة وفي قسم منها انتقاد ذاتي يترك أجوبته معلّقة، هو يتحدث عن انكفاء سعودي في لبنان بسبب أولويات على درجة عالية من الخطورة والأهمية، على رأسها حالة مصر بعد ثورة 25 يناير (كانون الثاني)، ويكمل أن السعودية انهمكت في الملف السوري من دون لبنان، ليختم بالقول “أعتقد أنه لو تمت مقاربة الملفين معاً، لتراجعت إيران إلى حد كبير”.
المصدر : اندبندنت عربية