كرسي الخيزران وأم كلثوم ..
لم يكن الناس يهتمون بمن خاط ملابس ذلك الهرم، ولا بمن صمم لها تسريحة الشعر ولا المكياج.
تقف خلف الميكروفون بصوتها وبصوتها فقط، ولا شيء أكثر، فلا إنارة تخطف اعين المشاهد بتراقصها، ولا ديكورات أو لوحات ضوئية تواكب حضورها، وخلفها يسجد كرسي الخيزران خاشعاً، يصغي و يصغي فقط ..
وخلفه يصطف عازفون كما لو أنهم حضروا لأداء عباداتهم الموسيقية..
فوق مقاعدهم الخيزرانية، يرتلون مشاعرهم بأوتارهم، فتخرج الأنغام بما يليق بالمستمع، بأقل ما أمكن من التوزيع، وبالشكل الذي يحفظ خصوصية كل آلة..
ومن أمامهم جميعاً جمهور فوق كراسي الخيزران، يهز الرأس أو الرجل ويتمايل كلما فعلت عذوبة عُرب صوت أم كلثوم فعلها في وجدانه..
لا أعرف سر العلاقة بين كرسي الخيزران وبين صوت هذا الهرم الإبداعي وبين تلك الأنغام تنبعث من الكمنجات الخشبية؛ يستند إلى أكتاف العازفين..
ولعل أم كلثوم إله عبر الزمن إلينا من تلك المعابد الخشبية التي كانت تجمع الإنسان البدائي بالآلهة القديمة..
وأتذكر كلما رأيت كرسي الخيزران خلف أم كلثوم، أعراسنا القديمة في القرية أيام كان أصحاب المناسبات يستعيرون معظم كراسي الخيزران من بيوت الجيران والبلدة لمناسباتهم، فتقوم جداتنا وأمهاتنا بوضع علامة من الزيرقون الأحمر والاسود والأزرق ، وبعضهن يقمن بتحمية مسمار معدني يدمغن به الكراسي بعدة نقاط، تميز الكراسي عن بعضها البعض ..
كانت حفلة تلك السيدة ملتقى غنائياً موسيقاً جمالياً صرفاً..
ويحضرني اليوم تقسيم مكونات حفلات فنانات هذا الزمن بين 30 % لفستان إيلي صعب او زهير مراد، و 30 % للدكتور نادر صعب، و 10 % للماكيير فتوح، و 10 % للإضاءة و 10% للصوت والديكور ، وال 10 % المتبقية للمغنية والموسيقى، والتي تطل على مسامعنا بعشرات الآلات، تتداخل أصواتها في جملة موسيقية واحدة، فتسقط النغم في فوضى التشويش.
وبهذا النوع من الحداثة الفنية يبتعد أبناؤنا عن أصالة موسيقاهم يوما بعد يوم، ليقتربوا من ضياع الهوية الوطنية وسط زحمة العالمية المفرغة من الذاكرة الثقافية الجمالية الخاصة.
عمر سعيد