رأي حر

البحث عن شفاء

قراءة في رواية ماتريوشكا-أرواح من قطن لعائشة بنور

بقلم عمر سعيد

الحب المفقود يحدث انهيارات داخلية، تسكن في دهاليز الذاكرة، فيفقد العشاق أشياء كثيرة بفقد الحب، دون أن يتمكنوا من معرفة ما حصل، وكيف حصل، ولم حصل؟ حالهم حال كلثوم التي ظلت تطارد وعلى مدار الرواية ظلّ خالد بن يحيى بعد أن فقدته في ظروف لم نكتشفها، وصارت تراه على الشاطىء، وبين الصخور، وفي أزقة المدن التي سحرتنا بالحديث عنها، وراحت تسير تائهة، تدفن وجهها بين كفيها مخافة ظهوره المفاجىء.

لم تعش كلثوم فقدًا ماديًا، بقدر ما عاشت جرحًا كان يلتهمها من الداخل، فتحمله معها أينما ذهبت.

يبدو من خلال السرد أنّ تنقّلَ كلثوم بين تنس، وتيبازة، ومدن ساحلية، وبيوت قديمة، وجبال، ومتاحف، لم يكن بدافع السياحة، بقدر ما كان حفرًا في الذاكرة، فقد راحت تستحضر لكل مدينة أسطورة ،أو حكاية، أو مأساة قديمة، فتستدعي أرواح ملوك، وجنائز، ومقابر منسية، وأساطير بحار، وتفتح أبوابًا على تاريخ منسي مدفون تحت الأرض.

تشارك كلثوم ضمن فريق تنقيب عن الآثار، كأنها تبحث عن بقاياها الداخلية، لا عن بقايا أشخاص قدماء، فيتحول عملها إلى مرآة داخلية تلامس أعماقها، وتوقظ فيها ما تحاول نسيانه.

تتسلل عائشة بنور في ماتريوشكا إلى ذاكرة الاستعمار، لتروي للقراء مشاهد التعذيب على يد الفرنسيين، ووجوه الشهداء التي تشكل “عار فرنسا” على حد تعبيرها.
ليتجلى ذلك العار في وصف عمّها سي محمّد الذي فقد بعض ذاكرته بسبب التعذيب الفرنسي، لكنّه لم ينس ملامح الجلاد، وظل يعيد سرد الحكاية كلما سنحت له الفرصة، كأنّها حدثت قبل قليل.

أما خالد بن يحيى فلا يبدو في الرواية مجرد حبيب؛ بل يظهر رمزًا لرجل مزّقته ذاكرة، ومزقت معه ذاكرة بلد إلى اليوم لم يتمكن سكانه من رتقها.

كما توظف بنور في روايتها الرموز: ماتريوشكا، باندورا، المومياء، الصندوق بكثافة ولباقة، فماتريوشكا هي الأرواح المتداخلة، والذاكرات التي تخفي بعضها بعضًا، وباندورا هي الشرور التي لا ينبغي أن تخرج، وأن تظل تدفن معها الأمل بإغلاق محكم، أما المومياء فهي الذاكرة الميتة بألمها المحنط، لتحضر أسرار الماضي كلها في صناديق الذاكرة.

كل ذلك لتربط بين الحب والفقد والاحتلال والتاريخ برباط الأسى المؤلم.

تنتهي الرواية بحالة شفاء تدريجي، بعيدًا عن النهاية المغلقة، إذ تعيد المدن لها أنفاسها، وتمدّها الأرض بالتماسك، ليظل خالد بن يحيى فقيدها، الذي نجهل عنه ليس مكانه فقط.

إذن الرواية سيرة وجدانية لامرأة تبحث عن نفسها في ذاكرة وطن مزقته الجراح، وراحت تتنقل بين حب مفقود وذاكرة ممزقة.
رواية تحدثنا عن مدن حفظت أسرارها، وعن احتلال ترك ظله على كل شيء، وعن رحلة البحث بين تراب تحبه وبحر تخشاه، ومقابر لا تُرجع من فيها، وأساطير لا انفكاك من تأثيراتها على شفاء قد لا يحصل بغير الكتابة.
عمر سعيدد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى