رأي حر

في ذكرى مجزرة الدامور/ بقلم عمر سعيد

٢٠-١-١٩٧٦

أذكر أني كنت صغيرًا، وصغيرًا جدًا يوم أفقت على خبر تلك المجزرة.

كان الكل من حولي فرحًا. يتناقل أخبار انتصارنا نحن والفلسطينيين على اللبنانيين وفتح بلدة الدامور.

وحدها أمي كانت حزينة، ليس لأنها كانت تعي ما يحصل سياسيًا، بل لأنها كانت تعرف معنى القتل والموت والتهجير.

زارنا بعد أيام فلسطيني كان يقيم في كهوف البلدة التي باتت مقرات للفدائيين، كان يحمل بيده كيسًا.

جلس. فتح الكيس، وأخرج منه لوحتين مائتين، وتمثالًا صغيرًا من البرونز لرأس نفرتيتي، وبوصلة معدنية، وناظورًا عسكريّا يقرّب المسافات.
عرضها على أبي مقابل مبلغ من المال، لم يكن أبي يملكه.

أخذ أبي الأغراض ووعده بتأمين المبلغ خلال أيام.
سأله أبي عن مصدر هذه المقتنيات، فاخبره أنّها من الدامور.
أدركنا جميعًا أنها من غنائم تلك المجزرة.

انتفضت أمي، وقالت بصوت مكتوم: على جثتي ما بفوتوا البيت.
كان البائع الفلسطيني يحتاج المال، فلم يبال برد فعل أمي.

غادر الرجل، وكلي ثقة أنّه حصل على ماله حسب الاتفاق، فقد كان الفدائيون أيامها سلطة الأمر الواقع، إذ أقاموا في البلدة سجناً، ما زال إلى اليوم شاهدًا على مرورهم، ومحطة وقود، وعشرات المواقع العسكرية.

ظلت الأشياء التي اشتراها أبي داخل الكيس أيامًا.
حاول أبي مرارًا أن يعلق بعضها في غرفتنا الوحيدة، وأن يضع رأس نفرتيتي على الطاولة التي تحمل التلفاز الصغير، ثنائي الانتين، الذي كنا نقضي السهرة، عبثًا نحاول توجيههما للالتقاط بث تلفزيون لبنان. إلا أنّ أمّي رفضت، وبرّرت رفضها بأنها لن تدخل حراماً إلى بيتنا، ولن تعرِضَ أمام أطفالها تمثالًا، يجلب الشر والشؤم.

أعاد أبي الأغراض إلى الكيس، ووعدها بأن ينسى أمرها.
ذات صباح، لمحتُ أمي تشعل النفايات عند سفح الجبل، الذي يبدأ الصعود خلف بيتنا بمئتي متر تقريبًا.

لحقت بها، فوجدتها تحرق الكيس الذي اشتراه أبي.
سرقت من داخله الناظور، أما رأس نفرتيتي، فقد حطمته بالحجارة بناء على أوامر أمّي.

اختفت تلك الأشياء، وظل الناظور ملكيتي الوحيدة، أخبئه فوق السطح، وأتسلل من وقت لآخر، أخرجه، وأجول بناظري من خلاله على بيوت القرية، وتلالها وسفوحها.
لقد مكنني ذلك الناظور من اكتشاف الكثير من أسرار العاشقين ومغامراتهم.

لاحظت أمي كثرة صعودي إلى السطح برفقة بعض الشباب الذين كانوا يكبرونني سنًّا، وما ألفتهم يرافقونني من قبل.
لحقت بنا ذات يوم، فاكتشفت أمر الناظور.
صادرته منّي، وحطّمته.
كنت حينها أصغر من أن أفهم سبب حاجة أولئك الشباب لذلك الناظور، فقد كنت دون سن المراهقة.

اليوم أفهم ما قدمته لي تلك الحرب التي اندفعنا فيها بكل طائفيتنا الحاقدة الغبية.
عمر سعيد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى